شاء الله تعالى أن يكون التدرج سُنة واضحة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وشريعته، ومن أجل ذلك نزل القرآن منجَّماّ، قال الله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}(الإسراء:106)، قال ابن كثير: “نزل مُفَرَّقاً منجَّما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة، قاله عكرمة عن ابن عباس”. وقد تدرج الإسلام في تحريمه للخمر، حتى حُرِّمَت تحريماً نهائياً في المدينةالمنورة سنة ثلاث من الهجرة النبوية، قال ابن تيمية: “فإن الخمر حُرِّمَت سنة ثلاث بعد أُحُد باتفاق الناس”، وقال القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن”: “وكان تحريم الخمر سنة ثلاث بعد وقعة أحد”. لمّا كان شرب الخمر في الجاهلية عند العرب عادة متأصلة فيهم، وكان يصعب على الواحد منهم ترك شربها، فقد تدرجت أحكام الخمر من الذمِّ لها، والتحذير منها، إلى التحريم القاطع والنهائي لها، فعن عمرو بن شرحبيل رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافِياً، فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(البقرة: 219)، قال: فدُعِى عمر رضي الله عنه فقُرِئتْ عليه فقال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}(النساء: 43)، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاةَ نادَى لا يقْرَبَنَّ الصلاة سكران، فدُعِي عمر رضي الله عنه فقُرِئَتْ عليه فقال: اللهمَّ بيِّنْ لنا في الخمرِ بياناً شافياً، فنزلت الآيةُ التي في المائدَة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة:90) إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(المائدة:91)، فدُعِي عمرُ رضي الله عنه فقُرِئَتْ عليه فلما بلغَ: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنْتَهُونَ} قال: فقال عمر: انتَهَينا، انتهيْنا). رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. ومما جاء كذلك في سبب نزول تحريم الخمر تحريماً نهائياً ما رواه مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (أتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقك خمرا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش (بستان) فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزق من خمر (وعاء من جلد فيه خمر)، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال: فأخذ رجل أحد لحيي لرأس (فك رأس الجزور الذي كانوا يأكلونه) فضربني به فجرح بأنفي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله عز وجل في شأن الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(المائدة:90)) رواه مسلم. وقد أشارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى التدرج في تحريم الخمر فقالت: (إنما نزل أوَّل ما نزل منه – أي القرآن – سورة من المُفَصَّل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا) رواه البخاري. قال ابن حجر: “أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب النزول، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها (نتركها)، وذلك لما طُبِعَت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف”. .. سرعة استجابة الصحابة لتحريم الخمر : عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت ساقي (الخمر) القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت، قال: فخرجت، فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حُرِّمَت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال: فجرت في سكك المدينة، قال: وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ (خمر يصنع من ثمر النخل)، فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}(المائدة: 93)) رواه البخاري. ومن صور استجابة الصحابة رضوان الله عليهم لتحريم الخمر ما ذكره الطبري في تفسيره عن ابن بريدة الأسلمي عن أبيه أنه قال: (بينما نحن قعود على شراب لنا، ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطية (إناء خمر) لنا ونحن نشرب الخمر حلّا، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه، وقد نزل تحريم الخمر: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ}(المائدة: 90)، إلى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}(المائدة:91)، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال: وبعض القوم شربته في يده، وقد شرب بعضاً وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام، ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا). لقد سارع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الانتهاء عن تناول الخمر بهذا الشكل الحاسم، وأراقوا ما لديهم منها، ولم يبيعوا ما بقي عندهم منها، وقالوا بلسان حالهم ومقالهم: انتهينا ربنا، انتهينا ربنا، وصار بعضهم يقول: ما حرَّم الله عز وجل شيئاً أشد من تحريمه للخمر. .. فائدة : الرد على شبهة شرب النبي صلى الله عليه وسلم للخمر : نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما شرِب الخمر أبداً ولو قبل الإسلام، بل ولم يفعل قط أمراً من أمور الجاهلية، وكانت حياته قبل نبوته وبعثته بعيدة كل البعد عن مفاسد وعادات الجاهلية التي نشأ قومه عليها وعاشوا فيها، ومنها شربهم للخمر، وذلك لأن الله عز وجل تكفل بحفظه ورعايته، منذ مولده وحتى وفاته، قال ابن هشام في السيرة النبوية: “فشبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، تنزها وتكرما، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة”. وأما الشبهة التي يثيرها بعض المبغضين للإسلام وللنبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى الله عليه وسلم كان يشرب الخمر، فهي شبهة واهية، وكذب وافتراء عليه، وهذا ليس بمستغرَب من هؤلاء الحاقدين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}(النحل: 105). وأما الحديث الذي يستشهدون به على افترائهم الكاذب، فهو الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه: (كان ينقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهرق). وهذا الحديث وما جاء في معناه من أحاديث أخرى لا يوجد فيه دليل على هذه الشبهة الباطلة، وإنما يستفاد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرب النبيذ الذي لم يقارب الوصول إلى حال السُكْر، والنَّبيذ الذي كان يشربه النبي صلى الله عليه وسلم هو عبارة عن ماء منقوع به قليلاً من الزبيب أو التمر وما شابه ذلك، وهو بمثابة العصير الذي لم يختمر ويصبح خمراً مسكراً كالخمر المتعارف عليه، قال النووي في شرحه لأحاديث الانتباذ وحديث ابن عباس السابق: “في هذه الأحاديث دلالة على جواز الانتباذ، وجواز شرب النبيذ ما دام حلوا لم يتغير ولم يغل، وهذا جائز بإجماع الأمة. وأما سقيه الخادم بعد الثلاث وصبه فلأنه لا يُؤمَن بعد الثلاث تغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتنزه عنه بعد الثلاث. وقوله: “سقاه الخادم، أو صبه” معناه: تارة يسقيه الخادم وتارة يصبه، وذلك الاختلاف لاختلاف حال النبيذ، فإن كان لم يظهر فيه تغير ونحوه من مبادئ الإسكار سقاه الخادم ولا يريقه لأنه مال تحرم إضاعته، ويترك شربه تنزها، وإن كان قد ظهر فيه شيء من مبادئ الإسكار والتغير أراقه لأنه إذا أسكر صار حراما ونجسا فيُراق ولا يسقيه الخادم، لأن المسكر لا يجوز سقيه الخادم كما لا يجوز شربه. وأما شربه صلى الله عليه وسلم قبل الثلاث فكان حيث لا تغير، ولا مبادئ تغير، ولا شك أصلا”. علما بأن هذا الحديث الذي يستشهدون به ذكره مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة:” باب إباحة النَّبيّذ الذي لم يشتد ولم يصير مسكراً”. مما لا ريب فيه أن شرب الخمر له أضرار كبيرة على الفرد في دينه وعقله، ونفسه وماله، وكذلك لها أضرار كبيرة على الأسرة والمجتمع، ومن ثم حرمها الإسلام تحريماً نهائياً وقاطعا، والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث الدالة على ذلك، ومنها قوله صلوات الله وسلامه عليه: (أتاني جبريلُ فقال يا محمد: إنَّ الله عز وجل لعَن الخمر، وعَاصِرها، ومُعْتَصِرَها، وشاربَها، وحامِلها، والمَحْمُولة إليه، وبائِعَها، ومُبْتَاعَها، وساقِيَها، ومُسْتَقِيَها (من يطلب أن يُسْقاها)) رواه أحمد وصححه الألباني.