ولسنا هنا في وارد التشكيك في هذه القيم أو إعادة الجدل حولها وحول مضمونها إلى نقطة الصفر بقدر ما يعنينا البحث في أزماتها الآنية فلكل فكر بشري لحظات أزمته التي قد تعيق تطوره أو تمنع انتشاره أو تكشف فيه وجوه تأويل أخرى لم يكن بالإمكان كشفها. وعادة ما تستثمر القيم "الناجحة عمليا" نجاحها للتغطية على مآزقها النظرية أو أزماتها الأخلاقية إلى أن تصطدم بلحظات إنجاز تكشف "ما ووري عنها من سوآتها". وانكشاف السوأة "لحظة هامة في الفكر البشري قد تدفع به إلى التطور وتجاوز مآزقه إذا استطاع أصحابه "التوبة" عن أسباب الانكشاف بعد تشخيصها وقد تدفع به إلى "الموت الحضاري" والأفول إذا استحيا أصحاب الفكر من "سوأته" وظلّوا يخصفون عليها من ورق التوت هروبا من التوبة -و ما يمكن أن نسميه بالقطيعة الفكرية- أو جحودا للعورة "ظلما وعلوا". " إذا كانت أحداث مسجد إسبانيا وحجاب فرنسا ومآذن سويسرا تمس عالمنا العربي والإسلامي باعتباره في وضع الدون والاستهداف فإن الجزء الأهم منه يمسّ قيم الغرب في حد ذاتها لأنه يكشف "عوراتها" ولحظات تأزمها " ما دفعنا إلى مثل هذه المقدمات الأحداث الأخيرة التي شهدها العالم وما زال في عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي في علاقة بالآخر المختلف، وتحديدا بالإسلام والمسلمين، أحداث جسدها مسجد قرطبة في إسبانيا، الذي حُوّل إلى كنيسة منع أسقفها عددا من المصلين أدركتهم الصلاة هناك من أدائها مستنجدا بقوات الأمن أي بأجهزة الدولة وما يرمز إليه ذلك من إشكال الالتزام بقيم المواطنة المتساوية خاصة إذا استحضرنا محاولات تصوير عملية أداء الصلاة على أنها محاولة من المسلمين لاستعادة الأندلس كما روّجت ذلك عدد من وسائل الإعلام. كما كانت مآذن سويسرا التي منع بناؤها باستفتاء شعبي فرضه اليمين المتطرف، ونقاب فرنسا الذي أوصى البرلمان الفرنسي بمنعه في الأماكن العامة وزاد عليه وزير الهجرة قرارا بمنع الجنسية عن الوافدين الذين يفرضون النقاب على زوجاتهم، وصولا إلى تقنين هذا المنع في بلجيكا التي صارت أول دولة أوروبية يمنع فيها الحجاب بنص قانوني، أحداث أخرى تتفاعل وتلتقي لتضع بين أيدينا مادة بحث تتجاوز لحظة إنجازها السياسي الآني إلى أبعادها الأخلاقية والنظرية. وإذا كان جزء هام من هذه الأحداث تمس عالمنا العربي والإسلامي باعتباره في وضع الدون والاستهداف فإن الجزء الأهم منه يمسّ قيم الغرب في حد ذاتها لأنه يكشف "عوراتها" ولحظات تأزمها ويسائل "كهنتها" عن مدى استعدادهم للتطور وتجاوز هذه السوآت حتى يتجنبوا أن يحرقوا "النموذج المثال" الذي قدموه للعالم. فما الذي تكشفه مئذنة ومنع صلاة ونقاب وحجاب من عورات القيم الإنسانية للغرب؟ لا بد من التنبيه قبل الإجابة عن هذه الأسئلة إلى أن تحليلنا لدلالات هذه الرموز لا يعني تبنيها بإطلاقية قد تحول بيننا وبين نقدها، ولكن المجال غير المجال وحسبنا في هذه المرحلة الوقوف على الدلالة الكاشفة للعورات القيمية الغربية أو ما نسمح لأنفسنا بتسميته بالأزمات الأخلاقية للقيم الغربية. العورة الأولى والأهم بالنسبة إلينا كمنتسبين للعالم العربي والإسلامي تتجلى في أزمة "الانفصال غير الأخلاقي" بين القول والفعل التي تسود الغرب في علاقته بقيمة الديمقراطية والحريات التي بشر بها العالم ووظف لها القدرات العسكرية لإنجازها حسب ما يدعي لكنه لم يستطع بأقدار متفاوتة وفي مواضع مختلفة أن يلتزم بها حفاظا على مصالحه الآنية. هل يعني ذلك صدق قول القائلين بأن أزمة الديمقراطية الغربية تنبع من كونها "ديمقراطية لا تجوز خارج المجتمعات الغربية؟". سؤال يبقى مطروحا إلى أن يوافق القول الفعل وهو ما لا يبدو قريب المنال، فتجارب هذه "الديمقراطية" تاريخيا مليئة بالمآسي حين تكون خارج بلدان المنشأ وحين لا يكون متلقيها غربيا كالفيتناميين والشيلي وبناما وعراق أبو غريب. و ما زالت المواقف تترى لتثير السؤال من جديد، حتى كانت مآذن سويسرا لحظة أخرى لامست مظاهر الأزمة الأخلاقية التي تعيشها القيم الغربية وكشفت عنها, فارتفاع المآذن لم يحل دونها ودون الغوص في أعماق البنى التي تأسست عليها وفيها القيم الغربية لكشف ما ووري من سوآتها عن العالمين، وهو ما أشار إليه الكتّاب والحقوقيون الذين يتجاهل الساسة أصواتهم وكتاباتهم من أن الحفاظ على القيمة مقدم على تنفيذ الآلية، أي أن قيمة المواطنة وحرية المعتقد اللتين قامت عليهما نظم الاجتماع المدني في الغرب أولى من تطبيق آلية الاستفتاء التي أسيئ الحرص على احترامها في الحالة السويسرية. " الحملة التي نظمت في الغرب للحفاظ على حرية التعبير على خلفية الرسوم المسيئة للرسول الكريم ورفض أي قرار قد يحجّر منع المسّ بالدّيانات أكبر دليل على أن المسألة أخطر من "شذوذ" سويسري عن القاعدة بقدر ما هو معبّر عن "سوأة" أخرى للقيم الغربية " ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أن الاعتراض بالقول إنها حالة شاذة لا يصمد أمام التمحيص والنقد ذلك أن الحملة التي نظمت في الغرب للحفاظ على حرية التعبير على خلفية الرسوم المسيئة للرسول الكريم ورفض أي قرار قد يحجّر منع المسّ بالدّيانات أكبر دليل على أن المسألة أخطر من "شذوذ" سويسري عن القاعدة بقدر ما هو معبّر عن "سوأة" أخرى للقيم الغربية وجب أن يتصدى لها مثلما يحاول العقلاء فيه فعل ذلك. وذكر العقلاء هنا يحيلنا إلى الحديث عن العورة الأخرى التي أدرجناها في هذا السياق وهي "عورة " النقاب (وإن كنت من الذين لا يتبنون الرأي الفقهي القائل به) وهي عورة مزدوجة حسب ما نرى كشفت من جهة عن تجاوز الساسة الفجّ لمنظومة القيم التي تقود الغرب ذلك "أن التنظيم المؤسساتي والقواعد الشكلية للعيش المشترك تعدّ نتيجة لتداول المواطنين وإرادتهم. فالتنظيم السياسي لا يسبق إرادة المواطنين ولا يعلو عليها لأن قناعاتهم تعدّ شخصية بالجوهر". لكن ممثلي الشعب في فرنسا لم يروا رأي المفكر الفرنسي "مارسال غوشيه" وسعوا بقوة الدولة الضامنة للحرية إلى سلب الحرية الذاتية للمواطنين تحت ذريعة الحفاظ على لائكية المجتمع، وهي ذريعة كشفت عن الوجه الآخر لهذه العورة بما أنها "أدخلت المجتمع الفرنسي في الدين" خلافا لما كان يروج له أنصار النظام الجمهوري اللائكي من أن نجاح التعايش في المجتمع يكمن في "الخروج من الدين" بمصطلح غوشيه بمعنى وضع الدين ضمن نظام المحايثة الدنيوية حتى لا تزداد هوة التباعد بين الدولة والمجتمع اتساعا إذا تصدت الدولة لتنظيم المجتمع دون صياغة واضحة "للعلاقات ما بين العام والخاص". وهذا ما وقع فيه ساسة فرنسا العلمانيين الذين انتهكوا مبدأ الحرية الذاتية وحرية المعتقد وفتشوا في النوايا مستهدفين دينا بعينه دون غيره من الديانات وهو ما يثير الريبة والشك حول حقيقة الحرص على قيم المواطنة الذي أبرز وجها "من وجوه العلمانية الفرنسية مستهجن وغريب" حسب تعبير رافائيل ليوجيي في مقاله الصادر بصحيفة الغارديان البريطانية يوم 26 يناير/كانون الثاني2010. الذي أضاف أن "اختيار النساء المسلمات، أو المسلمين عموماً أو المهاجرين، كبش محرقة يجنب الفرنسيين التصدي لأزمتهم الرمزية الفعلية". وهذا ما يفسر محاولة الوزراء الفرنسيين فلسفة هذه "السوأة " الجديدة التي أبرزها مشروع حظر النقاب حين اعتبروا أن رفض شخص كشف وجهه في الدوائر العامة "فضيحة فلسفية". لقد خالف الساسة الفرنسيون القانون الصادر سنة 1905 الذي ينص على أن تلتزم الدولة بالحياد الكامل تجاه كافة الأديان وهو ما دفعنا -في قياس اصطلاحي- إلى اعتبار فرنسا قد "دخلت في الدين" بمعنى أنها عادت إلى الطابع الكنسي و"التفتيشي" (نسبة إلى محاكم التفتيش) تجاه الآخر الإسلامي وهذا ما جسّدته الفزّاعة التي أطلقها أنصار المسجد الكنيسة بقرطبة، فزّاعة الحنين إلى الأندلس كأنما يستنفرون التاريخ للتغطية عن قصور في الامتداد بقيمهم إلى الأخر المختلف، ذلك أن القانون الإسباني يمنع النطق بالأذان، أو القيام بأي مظاهر إسلامية في المسجد وبجواره، باعتبار أن جامع قرطبة الذي تحول إلى كاتدرائية "يرمز لتحرير الأندلس، وعاصمته قرطبة، من سيطرة المسلمين حين تم إخراجهم من الإقليم قبل أكثر من 530 سنة" حسب تعبير بعض الصحف الإسبانية التي غطت الحدث آنذاك. وهذا ما قصدنا إليه من خلال الحديث عن "سوأة" القيم الغربية أو لحظات أزمتها التي تتطلب توبة عاجلة عنها وتجاوزها من أجل الحفاظ على الطابع الإنساني للقيم حتى لا يدركها "الموت الحضاري" الذي أصاب أمما كثيرة في التاريخ البشري آثرت أن تتعامل بمعيار "ولولا رهطك لرجمناك" في تنزيل قيمها إلى الواقع، أي أنها حوّلت قيمها إلى "مضامين عنصرية" لا تنظر إلى الإنسان في كونيته بل إلى عنصره وعرقه. ما الذي يعنينا نحن العرب والمسلمين من كشف "سوآت" القيم الغربية ولحظات تأزمها؟ هل هو دافع التشفي واشفاء الغليل، أو الإيهام بأن أزمة عاصفة تحل قريبا من "دار الغرب" تنسف هيمنته وتقزّم حجمه؟ " الفرق الجوهري في نظرنا بين أزمة القيم الغربية وقيمنا أن هذه الأخيرة هي أزمة داخلية بين القيم وبين حامليها رغم كونها منفتحة على الآخر أما قيم الغرب فأزمتها في علاقتها بالآخر الذي تنغلق دونه حين الإنجاز " مثل هذه الاعتبارات هي "حسابات عاجز" أقعده عجزه عن الفعل مثبط العزيمة جالسا على هامش التاريخ يتتبّع عورات الفاعلين فيه ناسيا أن عورته انكشفت وأن عليه أن يبحث في سبل توبته هو عن هذا "التعري القيمي" الذي يحياه. ذلك أننا نحن العرب والمسلمين امتلكنا -نظرا وفعلا- منظومة قيم كونية بشرنا بها العالم وأنزلناها إلى محك التجربة فهلّل لها العالم وما زالت هي تحتفظ ب "ألقها الكوني" بكرا لم تطمثها ريح التلاوات والتأويلات وتجارب الفعل المتكررة غير أن هذه الرياح تركت على عقولنا بعضا من رمالها تتراكم حتى غشيت عقولنا فظلت مشدوهة بين "ألق النموذج" و"عطب الفاعلين" أو بين عالم الأفكار وعالم الأشخاص بتعبير الأستاذ مالك بن نبي وهو ما جعلنا في وضع "القلة" نراوح منتصف الطريق لا نستطيع الرجوع إلى الخلف حيث الألق الساكن في أعماقنا ولا التقدم إلى الأمام وهذا هو عين الأزمة التي تجعلنا لا نطرح إلا القضايا التي لا علاقة للمجتمع بها. إن الفرق الجوهري في نظرنا بين أزمة القيم الغربية وقيمنا أن هذه الأخيرة هي أزمة داخلية بين القيم وبين حامليها رغم كونها منفتحة على الآخر أما قيم الغرب فأزمتها في علاقتها بالآخر الذي تنغلق دونه حين الإنجاز، ورغم أن ساسة الغرب الماسكين بزمام الأمور والفاعلين في صنع القرار وإنجازه ومن يدور في فلكهم من كتاب ومثقفين ما يزالون يتعاملون مع هذه "العورات" على استحياء إن لم يكن "ظلما وعلوا"، فإن فريقا من المفكرين المحترمين من رجال الغرب بدأ بالدعوة إلى "التوبة" عن هذه "السوآت" كصاحب كتاب "الأنوار التي تعمي" ريجيس دوبري، في فرنسا وهابرماس في ألمانيا. وليس هناك من تفسير للقول بأن هذا الطرح على أهميته لم يتجاوز مراحله الجنينية إلا أن ساسة الغرب وأصحاب المصالح لا يقرؤون لمثل هؤلاء المفكرين أو يقرؤون ويتجاهلون وفي الحالتين "بلاء عظيم"، يفرض علينا نحن العرب والمسلمين أن نبادر بالنظر إلى "عوراتنا" عسى أن نساهم في مقاربة رؤية أكثر استعدادا لتجاوز مرحلة "خصف ورق التوت على العورة" التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي. ذلك أن نظرنا إلى هذه العورات ما زال بعد لم يتجاوز مرحلة التحصّن بالمفاهيم الأيديولوجية التي تحول دون رؤية المتغيرات وتبني جُدُرا سميكة بيننا وبين من يختلف معنا في الرأي والرؤية.