النذير مصمودي بصرف النظر عن الحدود الموضوعية التي التزم بها الكاتب في هذا الموضوع، تحليلا ونقدا وتقويما، فإن قيمة ما تناوله في هذه الدراسة تنبع من كونه واحدا من الجماعة التي يتحدث عنها وينقدها، أو مراقبا لها من الداخل، وليس من الخارج. * * ولا يهمّ "الشروق" في هذا الموضوع، إلا فتح أبواب النقاش الهادىء، حول إشكالات الحركات الإسلامية المعاصرة، واستخلاص العبر والنتائج من تجاربها التاريخية المختلفة، وقد كانت سباقة في هذا المضمار إلى نشر ما يدور حول هذا الموضوع من اعترافات، وما يتعلق به من مراجعات ضمن الإطار النظري الأوسع. * * لست أدري على وجه الدقة، إلى أي حدّ يمكن اعتبار حالة الانقسام التي أصابت حركة مجتمع السلم في هرمها القيادي، تعبيرا حقيقيا عن انهيار التوازن الداخلي، الذي أفضى في حالة حركة النهضة الى تفككها اللا متناهي، وأدى في حالة جبهة الإنقاذ إلى اندثارها سياسيا وضمورها اجتماعيا؟ * * أوليس من السهل في هذا السياق-رغم الفارق القائم بين الحالات الثلاث- أن نتوقع ما لا يطمئن على استمرارية حركة مجتمع السلم وسلامة استقرارها، خصوصا في ظل ما يوحي إلى حد الآن بعجزها عن عقلنة صراعاتها، وترشيد تناقضاتها، التي تطورت بعد مؤتمرها الرابع إلى أشكال معقدة، لم يعد من الممكن طردها بسهولها، أو تجاوزها من غير ثمن؟! * * حقائق ينبغي أن تعرف * * قبل الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، أعتقد أنه من المفيد معرفة ثلاث حقائق أساسية، مساعدة على فهم المقدمات، والنجاح بالتالي في توقع النتائج المرتبطة بها، أو الناجمة عنها بالضرورة. * * 1- الحقيقة الأولى، هي أن الخلافات والنزاعات والصراعات، وما ينتج عنها عادة من انقسامات داخل الصف الإسلامي، وما تنطوي عليه في معظم حالاتها من خرق لروح الإسلام وقيمه، هي في الواقع ليست جديدة أو طارئة بل إن نشأتها ما زالت مرتبطة تاريخيا بأخطر أزمة عاشها المسلمون في تاريخهم، وهي التي نسمّيها في تاريخنا بالفتنة الكبرى، التي اندلعت كما هو معروف، بعد مقتل أو اغتيال الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- على يد جنود الأمصار المنطلقين من مصر والعراق. * * صحيح، أننا لا نكاد نصدّق أن مثل هذه الفتنة، التي فرقت صف المسلمين، وأسالت دماءهم في حرب شاملة، استمرت لأكثر من خمس سنوات، وكان يمكن أن تحدث في ذلك العهد القريب من النبوة والوحي.. * * وصحيح، أننا لا نكاد نفهم، كيف أن وليا مثل معاوية بن أبي سفيان، كان يمكن أن يتجرأ على خليفة مثل علي بن أبي طالب، ويرفض مبايعته، ثم يخوض حربا شاملة ضده، شارك فيها كل المسلمين تقريبا، وكبار الصحابة الذين لم يكونوا من الدهماء والعامة. * * وصحيح أن ذاكرتنا الإسلامية، ما زالت تنظر إلى هذا الحدث التاريخي، بحذر شديد، لما شكله لديها من ظاهرة غير مفهومة وصعبة التصديق، ولكن.. ألا يمكن أن نفهم من التحليل النظري المجرد أو من البحث العلمي في قوانين الصراع الاجتماعي، أن ما حصل للمسلمين في هذه الحادثة من اقتتال، وما انجرّ عن ذلك من انقسامات داخل صفوفهم، هو حقيقة تاريخية بشرية، تجسدت بالفعل في جماعة وأمة وحضارة؟ * * قد لا يكون من المهم أن نحسم أو لا نحسم فيمن كان على حق أو من لم يكن، لكن أوليس من المهم أن نتعرف على عمق هذه الحادثة، ونعترف بها كحقيقة تاريخية، يمكن أن تحدث، كما يمكن أن تتكرر في أي زمان ومكان؟ * * إننا لسنا من دعاة استنساخ هذه الحالة، أو التشبه بها، أو إعادة إنتاجها في طبعة ثانية "مزيدة ومنقحة"، لكن من المفترض أن نكون على وعي بحقائق التاريخ البشري بصفة عامة، وحقائق التاريخ الإسلامي بصفة خاصة، لنعرف أن ما تعرض له الصحابة وأهل السبق في هذا السياق، من فتن وصراعات وانقسامات، يمكن أن يتكرر، حالما توفرت أسبابه، أو تعاضدت عناصر مكوناته النفسية مع عناصر مكوناته الاجتماعية والسياسية. * * ومن هذا المنطلق، نستطيع ألا نتأخر في القول، بأن ما حدث أو ما يحدث من صراعات وانقسامات داخل الصف الإسلامي المعاصر بكل فصائله ومكوناته، وما نتج أو ما ينتج عن ذلك من أشكال التمزق والفرقة والتشرذم، هو ما ينبغي الاعتراف به كحقيقة، لم تعمل فقط على تعميق أزمة الإسلاميين الشاملة، لكنها كشفت أيضا عن أزمة العلاقة الداخلية فيما بينهم، وحاجتهم إلى المبادىء والقيم المؤسسة لشروط الوحدة أو العمل الجماعي الذي لا بد منه لإنجاز أي مشروع تاريخي كبير. * * ولا يمثل النموذج الجزائري، بكل أشكاله وأحجامه، وفي كل أطواره ومراحله، أي خروج عن هذه الحقيقة، أو أي استثناء، يمكن أن يميزه عن النموذج الإسلامي العام، الذي ما زال يعاني مما يمكن تسميته بالأزمة البنيوية أو التاريخية، التي تعني بالضرورة، ضياع الأسس والقواعد التي تقوم عليها الجماعة أو المجتمع. * * 2- الحقيقة الثانية، هي، أن ظاهرة تنامي الحركات الإسلامية، بعد انهيار الفكرة القومية العربية التي انتعشت في ستينيات القرن الماضي، ما زالت تثير لدى الباحثين والمحللين، تساؤلات عميقة، ليس فقط حول ماهيتها ومصادر نموها الاجتماعي المتزايد، إنما أيضا حول ظاهرة صراعاتها الداخلية، وحالات الانقسام الذاتي، الناشئة عنها. * * ومصدر التساؤل، والاستغراب الدافع إليه في هذا المضمار، هو أن المقدمات النظريات في خطابات الإسلاميين وأدبياتهم الفكرية والسياسية، التي تتحدث عن وحدة الصف والجماعة، نصا وتأويلا، لا يمكن أن تؤدي عمليا -حسب قانون المقدمات والنتائج- إلا إلى ما عجزت الأمة الإسلامية عن تحقيقة منذ نشأتها، باستثناء حقبة الخلافة الراشدة القصيرة، التي استطاعت أن تجسّد بالفعل نموذج الجماعة الواحدة، وتشكل النواة الحية والصلبة للأمة الواحدة التي تحدث عنها النص القرآني "إن هذه أمتكم أمة واحدة". * * فلماذا إذن، يعجز الإسلاميون عن تقديم نموذج ملموس للجماعة المتضامنة والواحدة؟ وما هي الحوافز العميقة المشجعة دائما على تكريس نموذج التفرق والانقسام، وتأكيده في الواقع؟ * * تختلف الآراء في تحديد الأسباب الرئيسية والفرعية لحالات الانقسام التي نتحدث عنها، لكنها تكاد تتفق جميعا على جملة من المسلمات التي تعتبرها مقدمات أساسية لهذه الظاهرة. * * وأول هذه المسلّمات، هو منطق "الغنائم" الذي يزداد رسوخا لدى الإسلاميين، كلما ازدادت انتصاراتهم المعنوية والمادية، الظرفية منها والدائمة. * * ولذلك يقولون في الحالة الجزائرية مثلا: لماذا لم تظهر الخلافات والصراعات والانشقاقات في صفوف الإسلاميين الجزائريين، يوم كانت الحركة الإسلامية بمختلف فصائلها مجرد جماعات سرية غريبة ومطاردة؟ * * لقد دبّ الخلاف القيادي في صفوف جبهة الإنقاذ، وهي في أوج زهوها السياسي وانتصارها الانتخابي، وكاد الأمر أن يؤدي كما هو معروف إلى إنشاء جبهة موازية، بعد إعلان أعضاء من مجلس الشورى الوطني انقسامهم عن الجبهة الأم. * * وكذلك النزيف الذي أصاب كيان حركة النهضة، وأفضى إلى انقسامها قسمين، عندما تأسست حركة الإصلاح الوطني، وانضم إليها رئيس الحركة، منشقا عن حزبه الأول.. أولم يحدث هذا، وحركة النهضة في أوج عنفوانها السياسي وانتصارها الانتخابي؟! * * وكذلك الأمر، في حالة حركة مجتمع السلم، التي ظلت إلى وقت قريب، تتمتع بقدرة استثنائية على تجاوز تناقضاتها، أو عدم الخضوع لشروط حالة الانقسام والتفكك التي أصابت أخواتها. * * إن منطق الغنائم الذي أكد حضوره في أخطر حالات الانقسام التي مر بها المسلمون في تاريخهم كما قلنا، هو ذات المنطق الذي أكد نفسه في الحالة الإسلامية الجزائرية، بدءا بجبهة الإنقاذ، ومرورا بحركة النهضة، وانتهاء مؤخرا بحركة مجتمع السلم. * * ولا نلمس حضور هذا المنطق فيما حدث داخليا لكل حزب على حده فقط، وإنما نلمسه أيضا عند حصول القناعة لدى الأحزاب الثلاثة، باستحالة الوصول إلى اتفاق حاسم بينها، كان يمكن أن يفضي في إطار رابطة الدعوة الإسلامية إلى وحدة الصف الإسلامي في صيغة حزب واحد. * * وقد لا تعنينا الإشارة في هذا السياق، إلى أسباب فشل وساطة رابطة الدعوة الإسلامية من أجل إزالة الخلافات بين الكيانات الإسلامية الثلاثة، أو المبررات الشرعية والسياسية التي اقتنع بها كل حزب للاستقبال بنفسه، إنما يعنينا القول إجمالا بأن منطق الغنائم الذي نتحدث عنه، هو الذي أدى ارتفاع ضغطه لدى هذا الطرف أو ذاك، إلى ضياع فرصة الوحدة والانسجام، وعجّل بتفريق الصف، والفشل في تقديم نموذج وحدودي، كان يمكن أن يثير الإعجاب، بل والفشل في مجرد دخول انتخابات (1991) بقائمة واحدة، مثلما نادى بذلك الشيخ نحناح عليه رحمة الله. * * ونحن عندما نتحدث عن منطق الغنائم، فإننا لا نعني تحريمه أو تجريمه، فقد تحدث النص القرآني عن الأنفال أي الغنائم، وحق المسلمين فيها، إنما نعني المنطق الذي يجلعها غاية في ذاتها، حيث تتراجع معاني التضحية والإيثار والجهاد في سبيل الله، ويفقد معنى الدعوة والرسالة هيمنته على المواقف والأفعال. * * ولعل هذا المنطق السلبي، هو الذي كان وراء اغتيال خليفة المسلمين، عثمان بن عفان، من طرف جنود الأمصار، الذين شعروا بأنهم أحق بالغنائم الناشئة عن انتصاراتهم من غيرهم من الباقين في المدينةالمنورة. * * من هنا.. تبدأ الحقيقة * * ومن هنا، أعتقد بأن البحث عن حقيقة ما حدث للإسلاميين الجزائريين عموما في هذا الموضوع، وما حصل لحركة مجتمع السلم تحديدا بعد مؤتمرها الرابع، لن يبدأ بداية صحيحة وسليمة، إلا إذا نزعنا عن وعينا أوهام القدسية للأشخاص والنخب والزعامات، ونظرنا إلى أفكارهم ومواقفهم وسلوكاتهم، نظرة واقعية، تعتمد الملاحظة والنقد والتحليل. * * بهذا فقط، يمكن أن نخضعهم لمحاكمات عقلية مجردة، تقوم على أساس التسليم بأن آراءهم، هي آراء إنسانية، تحتمل الخطأ والصواب، وهم محتاجون كغيرهم إلى أن يبرهنوا على صحتها باستمرار. * * نقول هذا، لأننا نكون قد ارتكبنا خطأ فادخا، عندما يرتبط شعورنا باحترام هؤلاء أو تقديرهم، انطلاقا من شعورنا بقدسيتهم أو نظافتهم المعنوية المطلقة. * * ونقول هذا، لأن معظم قواعد الأحزاب الإسلامية، ما زالت مرتبطة في وعيها بالزعماء والقادة والشيوخ الإسلاميين، مثل ارتباط الأوساط الإسلامية الشعبية بالأولياء والصالحين، الذين تتعلق بكراماتهم وتخضع لتأثيرهم. * * ولذلك، لا ينبغي أن نتردد أبدا في اعتبار ما حدث لحركة مجتمع السلم من انقسامات وصراعات، تعبيرا عن سلوك بشري، يمكن أن تختلط فيه النوازع البشرية المحضة، أو تتفاقم فيه دواعي الاستجابة لمنطق الغنائم والمصالح الخاصة، أو الخضوع لنادي الهيمنة والتفرد والاستبداد. * * وليس بإمكاننا من منظور هذا التفسير، إلا أن نعترف مرة أخرى، ومهما كان التأويل، بأن النكسة الداخلية التي أصابت رأس الحركة، وما نتج عنها من صداع وتصدع، لا يمكن أن تكون إلا نتيجة منطقية ومباشرة لمرض داخلي خطير، هي المتسببة فيه بالدرجة الأولى، وليس "الأيادي الخفية" كما يفترض القائلون بنظرية المؤامرة، التي تكاد أن تصبح تبريرا "وهميا" لكل أمراضنا، ونكساتنا الداخلية اللا متناهية في شتى مناحي الحياة. * * أسباب.. وخلفيات * * وبعكس ما تفترضه هذه النظرية التي لم يقم على صحتها أي دليل، فإن سيادة موقف الصراع، ثم الانقسام في حالة حركة مجتمع السلم، أسبابا وخلفيات، تتجاوز القراءات الساذجة، والتفسيرات البسيطة التي تجعل من تلك الحالة، حالة طارئة، يمكن تجاوزها بسهولة. * * صحيح، أن الحركة، حرصت منذ نشأتها كجماعة سرية، على أن تنتزع لنفسها هوية خاصة، تميزها عن الإرث الإسلامي التقليدي السائد، وصحيح أنها بنت وجودها المستقل على أساس شعورها بوحدة أعضائها، وانتمائها العميق للأمة الواحدة، لكن هذا لاينفي، أو ينبغي الاعتراف بحقيقة أن الجذور الأعمق للتوجهات المتباينة، والمواقف المتناقضة داخل النخبة القيادية للحركة، ترجع امتداداتها في الواقع إلى ما قبل تحزيب جمعية الإرشاد والإصلاح، أو تحويل الحركة إلى حزب سياسي. * * ولعل البعض من قدامى الحركة ومؤسسيها مازال يعرف أن مسألة تحويل جمعية الإرشاد إلى حزب سياسي، كادت أن تؤدي إلى تفقر الصف وحدوث الفتنة، بعد انقسام قيادة الجمعية إلى قسمين، وانسحاب الفريق المناهض لتحزيب الجمعية (وعلى رأسهم الدكتور شرفي الرفاعي، العضو القيادي المعروف) من الساحة، والانكفاء على الذات. * * وقد لعب الشيخ نحناح -رحمه الله- الدور الأحسم في احتواء مثل هذه الاختلافات أو الحد من قدرتها على التعبير عن نفسها بشكل سافر في ذلك الوقت ومحاصرة آثارها إلى أبعد نطاق. * * ولذلك، كان من الطبيعي، أن يكون (بما كان يمثله من رمزية تاريخية، ونفوذ معنوي) رجلا محوريا في الحركة الناشئة، وأن يكون بعد أطوار النشزة قائدا كرازماتيا، يتمتع بثقل فكري وسياسي، استطاع من خلاله أن يؤلف مسعى ملموسا ومستمرا لدرء الاختلافات والصراعات، وضمان وحدة الحركة واستقرارها، وبلورة الرؤية التي تبث الاتساق فيها، وتحدد بشكل أفضل الإطار الاستراتيجي والشرعي للضرورات والأولويات. * * ما أريد الإشارة إليه في هذا الموضوع، هو أن رحيل مثل هذا الرجل المحوري المحترم، ساعد بشكل مباشر على بروز قوى الصراع القيادي التي كانت كامنة في عهده، أو التي استطاع كبحها كما قلنا، بما أوتي من هيبة واحترام ورشد. * * ولعل هذا، هو السبب الأعمق في تفجر النزاع القيادي بشكل سافر بين قطبيه البارزين على الأقل (أبو جرة ومناصرة)، والذي عبّر في أطواره المتأخرة، وبشكل واضح عن اتجاه الطرفين نحو تكوين شرعيتين متعارضتين، تعكسان تبلور معسكري مصالح متناقضين، وتحالفين يقف كل منهما في مواجهة الآخر. * * إن تفجر هذا الصراع، وبهذا الشكل السافر بعد رحيل الشيخ نحناح، يعني منطقيا، بأن الرجل، لم يكن يشكل عنصرا عاطلا في حساب المنازعات الداخلية والصراعات القيادية التي كان - حسب علمي- واعيا بطبيعة المطالب المصلحية التي تحركها بين الحين والآخر، أو النزوعات المادية التي كانت تغذيها، طموحات هذا الطرف أو ذاك. * * ولذلك، كانت فترة مرضه القصيرة، كافية، للتعبير الواضح عن مختلف المصالح المتصارعة داخل الحركة، وفي مقدمتها مصالح النخبة القيادية التي وجدت نفسها مدفوعة في هذه الفترة إلى إقامة توازنات جديدة، لتعزيز مواقعها القيادية، والوصول بالتالي إلى خلافة الشيخ الراحل، والاستحواذ على إرثه الكبير. * * ولسنا هنا، بصدد توجيه الاتهام لهذا الطرف أو ذاك، رغم ما نملكه من أدلة الإدانة، إنما فقط نريد التأكيد على أن فكرة "الخلافة" التي نتحدث عنها، هي الفكرة التي ترسخت في وعي الأطراف المتصارعة بلا استثناء، وتغذت من الطموح الزائد لدى هذا الطرف أو ذاك في الوصول إلى الموقع القيادي الأول في الحركة بعد رحيل صاحبه. * * ولعل هذا التأكيد، هو الذي سيقودنا إلى الاعتراف بأن معظم بواعث الصراع القيادي الذي قسم الحركة في نهاية المطاف، لم تكن في الواقع إفرازا طبيعيا لما يمكن أن ينتج عن حالة الاختلاف الطبيعي في الرأي والفكر، بقدر ما كنت محصلة سنوات كاملة من الصراع الخفي على المصالح والمواقع، واستعمال منطق التحدي المتبادل، والنزوح إلى عزل عوامل التلاقي والانسجام، والانخراط في لعبة الإقصاء والتهميش. * * 2- كذلك، من أسباب هذا الصراع وخلفيات احتدامه بين قطبيه البارزين (أبو جرة ومناصرة) وجود طرف ثالث، ولد في سياق هذا الصراع وعلى أثره، وارتبط قبل وأثناء وبعد المؤتمر الرابع للحركة بمحاولة تغذيته بكل ما يعني الحد من نمو العلاقة الأخوية والتضامن الجماعي وإعاقة تطوير الرد الإيجابي على هذا الصراع وتأجيجه بالتالي بأساليب مختلفة، من أجل أن يقدم نفسه في نهاية المطاف، بديلا عن القطبين المتصارعين، أو بفتح المجال أمام بلورة نموذج قيادي بديل، يظهر هو أحد أركانه اللامعين. * * وكان من الواضح، أن يشكل هذا الطرف »الغامض« أحد أسباب تأجيج الصراع بين أبو جرة ومناصرة، وتغييب قدرتهما على توليد إجماع حقيقي، أو قاسم مشترك كاف لبلورة القيم والمواقف المساعدة على تجاوز الأزمة. * * 3- لكن ، ما زاد في تعقيد الأزمة أكثر، ووصل بها في النهاية إلى الأفق المسدود، هو تحوّل هيئة المؤسسين، أو معظم أعضائها على الأقل إلى »لجنة مساندة« لهذا الطرف على حساب الطرف الآخر، بينما كان من المفترض أن تبقى هذه الهيئة على الحياد الإيجابي، وتعمل بما أوتيت من هيبة تاريخية على وحدة الحركة وحفظ تماسكها، وهو الدور »النوعي« الذي كان من المفترض، أن يؤهلها بامتياز لترميم الاختلالات الكبرى التي أحدثها الصراع القيادي في هرم التنظيم الحركي.