قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:283] أخبرنا الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أنه شرع الصيام وجعله سنة عامة على كل أجيال البشر وتذكر لنا كتب التاريخ أن الفرس والرومان والهنود واليونان والبابليين والمصريين القدماء كانوا يمارسون الصوم، باعتباره عملا من الأعمال الحسنة، كما مارسه ويمارسه اليهود والنصارى ولكن بصور أخرى ابتدعوها وانحرفوا بها عن المعنى الحقيقي للصيام. إن الكائنات الحية جميعًا ما عدا الإنسان يسيرها الله وفق قانون متوازن للحصول على احتياجاتها من الغذاء فتأخذ منه على قدر حاجتها. فنجد أن شهية الحيوان للطعام ترتبط بالحاجة الحقيقية له أو لما سخرت من أجله، فقد يمتنع الحيوان عن تناول الطعام لفترة طويلة كما في البيات الشتوي عند بعض الحيوانات، أو يتناول وجبات متباعدة جدًّا كما هو الحال عند بعض الثعابين، أو يمتنع الحيوان عن الطعام خلال فترة المرض أو الإصابة بجرح أو كسر كما هو الحال في الخيول والكلاب والقطط وغير ذلك، أو عندما يريد الحيوان السفر والهجرة أو التكاثر كما في سمك السلمون وبعض الطيور والثدييات. ولكن الإنسان أعطاه الله الإرادة وحرية الاختيار، لذلك فقد تنفصل شهيته لتناول الطعام عن حاجته الحقيقية له، فتراه يلتهم منه ما يزيد عن الحاجة، وخصوصًا عندما يتوفر الطعام بأنواع مختلفة وأشكال عديدة. إن الإنسان في هذا العصر -كما يقول أحد العلماء-: لا يأكل لأنه جائع، بل يأكل ليرضي شهوته للطعام فيتراكم الفائض منه في الجسم، ويُحدث اضطرابًا في مكوناته من العناصر المختلفة، وتتراكم سموم الأغذية في أنسجته فيحدث الخلل، وتظهر الأمراض والعلل. إن الأخطار والأضرار الناتجة من كثرة الأكل بلا موعد أو ضابط، باتت حقيقة لا نزاع فيها.. يقول أحد العلماء: "من المؤكد أن الأكل وخصوصًا المتعاقب (إدخال الطعام على الطعام) يشكل عبئًا ثقيلا بالتمثيل الغذائي على الجسم، وإن قطع هذه العادة سيقلل من إفراز هرمونات الجهاز الهضمي والأنسولين بكميات كبيرة، وهو ما يحفظ صحة الجسم ويعطي للإنسان حياة أفضل وأطول، ولقد أكدت الأبحاث أن فئران التجارب التي تأكل يومًا بعد يوم يمتد عمرها 63 أسبوعًا أطول من مثيلاتها التي يسمح لها بالأكل كلما تريد كما أنها كانت الأكثر نشاطًا في الأسابيع الأخيرة من عمرها". ومع بزوغ عصر النهضة العلمية في أوروبا أخذ العلماء يطالبون الناس بعدم الإفراط في تناول الطعام والانغماس في الملذات ويقترحون الصوم للتخفيف من ذلك، حتى قال أحدهم يخاطب قومه: "يا إيطاليا البائسة المسكينة ألا ترين أن الشهوة تقود إلى موت مواطنيك أكثر من أي وباء منتشر أو حرب كاسحة، إن هذه المآدب المشينة (صور للمآدب وللآكلين بشراهة)، والتي هي واسعة الانتشار اليوم لها من النتائج الضارة ما يوازي أعنف المعارك الحربية؛ لذلك يجب علينا ألا نأكل إلا بقدر ما هو ضروري لتسيير أجسامنا بشكل مناسب، وإن أية زيادة فيما نتناوله من كميات الطعام تعطينا سرورًا آنيًّا، ولكن علينا في النهاية أن ندفع نتائج ذلك مرضًا، بل موتًا في بعض الأحيان". أليس هذا كله شهادة للإعجاز العلمي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه» رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم، يشهدون بأقوالهم وأبحاثهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وهم لا يعرفونه، وعقائدهم تخالف ذلك تمامًا....يتبع