فتح ملف الثلاثية.. وخبراء يتوقعون: انقضى أسبوع على انعقاد الثلاثية بين الحكومة، المركزية النقابية وأرباب العمل (الباترونا)، ومع ذلك لا تزال الكثير من الأسئلة تبحث عن أجوبة، سيما ما تعلق منها بالزيادات المرتقبة في أجور العمال، بعد إلغاء المادة 87 مكرر. فلا الفئات العمالية التي تمسها هذه الزيادات تم الحسم فيها، وكذلك الشأن بالنسبة لقيمة الزيادات. فبينما قال سلال إن بعض الفئات العمالية ستحصل على زيادات بداية من جانفي المقبل، يذهب خبراء إلى القول بأن ذلك غير ممكن قبل 2016. وعلى الرغم من أن الثلاثية ناقشت محاور أخرى، مثل تطوير المؤسسات الاقتصادية وتحسين مناخ الاستثمار.. إلا أن الشارع لا يزال يتساءل عن الأثر المباشر على حياتهم اليومية. هذه التساؤلات سيحاول هذا الملف الإجابة عليها على لسان خبراء ومتخصصين في الاقتصاد، وممثلين عن الشركاء الاجتماعيين.
الخبير السابق بصندوق النقد الدولي.. محمد حميدوش ل"الشروق": لهذه الأسباب سيتأجّل تطبيق إجراءات إلغاء المادة 87 مكرّر توقّع محمد حميدوش، الخبير السابق بصندوق النقد الدولي، عدم تمكن الحكومة من الوصول إلى تصور واضح بشأن تطبيق إجراءات إلغاء المادة 87 مكرر، قبل 2016، وأرجع ذلك إلى تداخل المعطيين الاجتماعي بالاقتصادي في مراجعة الحد الأدنى المضمون للأجر. وقال حميدوش: "في غياب المحفز المتعلق بالمؤشر الاقتصادي، يمكن القول إن الزيادات المرتقبة في أجور العمال، قد لا تجد طريقها إلى التجسيد قبل حلول العام 2016"، وبرر ذلك بالتعقيدات المرتبطة بالقراءة القانونية والاقتصادية للمادة الملغاة من قانون العمل. وكان الوزير الأول عبد المالك سلال قد أكد في اجتماع الثلاثية الأخير أن إجراءات إلغاء المادة 87 مكرر سيبدأ تطبيقها بداية من جانفي 2015، غير أنه نبّه إلى أن التجسيد سيقتصر في البداية على الفئات العمالية الهشة، لتفادي إثقال كاهل الاقتصاد الوطني، على حد تعبيره. وذكر الخبير الاقتصادي في تصريح ل"الشروق" أن الحكومة ستصدر مرسوما تنفيذيا يحدد الإطار الناظم للزيادات في الأجور، وتوقع أن يصدر هذا المرسوم في آفاق شهر ماي من العام المقبل، مشيرا إلى أن قيمة هذه الزيادات سيحددها المناخ الاقتصادي والمحيط الاجتماعي. وأوضح حميدوش بهذا الخصوص: "إذا كان الظرف الاجتماعي يطبعه الاستقرار والهدوء (ملائم)، فالتنازل سيكون من جهة العمال أو على حسابهم، أما إذا كانت هناك ضغوط وتململ في الشارع ومحيط إقليمي غير مساعد، فالتنازل سيكون من فوق، أي من الحكومة ولصالح العمال"، متوقعا ألا تتجاوز نسب الزيادة عتبة ال5 بالمائة. ويمكن للحكومة أن تحل الإشكالية بقرار إداري، وهذا يتطلب استدعاء ثلاثية أخرى، بحسب الخبير الاقتصادي، الذي تحدث عن صعوبات يعاني منها الاقتصاد الوطني في الوقت الراهن، جسدها احتمال وصول نسبة التضخم إلى 3 بالمائة بحسب توقعات قانون المالية 2015. ومعلوم أن ضبط الحد الأدنى المضمون للأجر تحكمه ثلاثة عوامل، الأول يتمثل في متوسط الإنتاجية الوطنية المسجلة، والظرف الاقتصادي العام، ومؤشر أسعار الاستهلاك (التضخم)، ما يعني أن أي الزيادة في الأجور تكون نتيجة لسيرورة اقتصادية وليس لقرار إداري (سياسي)، فعندما تصل نسبة التضخم إلى حدود 2 بالمائة، يزداد الأجر الأدنى المضمون آليا. غير أن المشكل، بحسب المتحدث، يكمن في أن قانون العمل الساري المفعول تم تشريعه وفق خلفية إيديولوجية اشتراكية، وقد تجلى ذلك من خلال الزيادات الثلاث الأخيرة في الأجر الأدنى المضمون، والتي حددت في الزيادتين الأخيرتين بثلاثة آلاف دينار (من 12000 إلى 15000 دينار)، وقبلهما ب2000 دينار (من 10000 إلى 12000 دينار)، حيث تساءل عن المعايير التي تم الاستناد عليها في ضبط تلك الزيادات. وبرأي المتحدث، فالإدارة غير قادرة على إعطاء نموذج رياضي يكون بمثابة حل وسط، يضمن حدا أدنى من التوافق حول الأجور بين الأسرة من جهة، والمؤسسة الاقتصادية، الإدارة ممثلة في الوظيف العمومي وصناديق التقاعد (المعاشات)من جهة أخرى، طالما أن الظرف الاقتصادي تقيمه وزارتا العمل والمالية، وليس المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي ووزارة الصناعة، والديوان الوطني للإحصاء. وكحل لهذه الإشكالية، يرى الخبير السابق بصندوق النقد الدولي ضرورة أن تكلف وزارة المالية، المعهد الوطني للإحصاء للقيام بدراسة علمية، تكون محل إجماع من قبل جميع المعنيين وكذا المختصين والأكاديميين، يستأنس بها في إعداد شبكة أجور تأخذ في الاعتبار الظرف الاقتصادي العام للبلاد.
ما هي الثلاثية؟ يعود أول اجتماع للثلاثية إلى عام 2000، ودأبت العادة على أن تتشكل أطراف الثلاثية من الحكومة، ممثلي أرباب العمال (الباترونا)، الاتحاد العام للعمال الجزائريين. وإذا كان حضور الحكومة و"الباترونا" أمرا طبيعيا، يديران النشاط الاقتصادي كل حسب موقعه، فإن الخلاف الذي ظل مهيمنا على النقاش، بقي محصورا في اقتصار ضم المركزية النقابية إلى الثلاثية، دون غيرها من الشركاء الاجتماعيين الآخرين. وتكون الحكومة قد استندت في هذا الخيار على المادة 87 من قانون العمل 90 /11، التي تتحدث عن "استشارة نقابات العمل والمستخدمين والتنظيمات النقابية الأكثر تمثيلا" في حال مراجعة الأجر الوطني الأدنى المضمون، غير أن المشكل يكمن في كيفية تحديد من هي النقابة العمالية الأكثر تمثيلا، في وسط بات يعج بالنقابات.
المركزية النقابية "رجل مطافئ" والباترونا "رابحة" دائما العمال مطالبون بشدّ الحزام مقابل "البقشيش" انتظرت الطبقة "الشغيلة" في الجزائر عمالا وموظفين، أن يخرج اجتماع الثلاثية الأخير، الذي انعقد في ال18 سبتمبر المنصرم، بالإعلان عن تعميم الاستفادة من إلغاء المادة 87 مكرر من قانون العمل على جميع الفئات، وعودة القروض الاستهلاكية، وبالتالي تحسين المستوى المعيشي للجزائريين، غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، فيما خرجت "الباترونا" المستفيد رقم واحد من "الثلاثية". ويعود مع كل اجتماع يتعلق ببحث أمور العامة من الجزائريين، الحديث عن ضرورة التقشف وشد الحزام، حفاظا على أموال الأجيال القادمة، بالرغم من الاحتياطات التي تزخر بها الجزائر في الخارج من أموال المحروقات، غير أنه وبالمقابل تستفيد فئات أخرى ك"نواب البرلمان بغرفتيه والمجاهدين ومختلف إطارات الأمة"، من زيادات معتبرة دون أية "حسابات" من السلطة، أما الطرف الثالث في المعادلة "الباترونا" فيبقى يحصل على التنازلات من الحكومة دون أن تقدم ما يقابلها ولو بالقليل. ويجسد هذا قراءة الخبير الاقتصادي الدكتور فارس مسدور، الذي قال في تصريحات ل"الشروق" أن الهم الوحيد للباترونا هو الحصول على مزيد من الإعفاءات الجبائية وشبه الجبائية والجمركية، في حين أن ما تقدمه للاقتصاد الوطني ضعيف جدا، والدليل على ذلك حجم صادرات البلاد خارج قطاع المحروقات، التي لم تصل بعد إلى 2 مليار دولار. مسدور: الرأسمالية تزحف على الجزائر رغم تراجعها في مهدها بل أن الخبير يرسم واقعا سوداويا حول "الباترونا" في الجزائر، التي وصفها بالوجه القبيح للرأسمالية التي بدأت تراجع سياساتها ومفاهيمها الاقتصادية في عقر دارها في الولاياتالمتحدةالأمريكية والغرب عموما، كاشفا عن تكبيد هؤلاء للخزينة العمومية ما يفوق 200 مليار دينار سنويا جراء الغش والتهرب الضريبي. وعاتب المتحدث الشريك الاجتماعي ممثلا في المركزية النقابية التي تحولت في رأيه إلى شريك للحكومة على حساب مطالب العمال. وبخّر الإعلان عن نتائج الثلاثية حلم عشرات الآلاف من العمال الذين كانوا يأملون في رفع قدرتهم الشرائية وتحسين مستوى استهلاك أسرهم، باكتفاء الحكومة و"الباترونا" والمركزية النقابية، بحصر الاستفادة من إلغاء المادة 87 مكرر في الفئات الهشة على أن تعمم على الفئات الأخرى تدريجيا دون آجال محددة. وتجاهل المعنيون عودة القروض الاستهلاكية الخاصة بالمنتجات المحلية التي كانت أحد المطالب الأساسية لغالبية الجزائريين، حيث سيساهم في حل مشاكل عشرات الآلاف من العائلات ذات الدخل المتوسط أو الضعيف، من خلال مساعدتها على اقتناء منتجات محلية عن طريق القروض. وأمام شح نتائج الثلاثية، حاولت السلطة إغراق المواطن بوعود جسدتها "توصيات" بمواصلة السياسة الاجتماعية للحكومة عبر ترشيد التحويلات الاجتماعية ودعم الطبقات المحرومة وايلاء عناية خاصة للتكوين ونوعية الموارد البشرية من خلال تشجيع وترقية تكوين الإطارات واليد العاملة المؤهلة من أجل تحقيق الأهداف الاقتصادية المسطرة. واكتفى أطراف "الثلاثية" ب"الاتفاق" على مواصلة جهد مكافحة البطالة وتشجيع الاستثمار المنتج المحدث للثروة ومناصب العمل وإيلاء عناية خاصة للتنمية الفلاحية والريفية بسبب مساهمتها في الأمن الغذائي، وكذا ترقية ودعم الأنشطة الاقتصادية القائمة على المعرفة وذات القيمة التكنولوجية القوية ودعم المؤسسات المصغرة التي يبادر بها الشباب من حاملي الشهادات وترقية المناولة. في المقابل تمكنت "الباترونا" من الحصول على امتيازات كثيرة تحت شعار "تحسين مناخ الأعمال" من خلال تبسيط إجراءات إنشاء المؤسسة، وتوفير العقار والحصول على القرض وعلى خدمات عمومية جيدة وعصرنة الإدارة الاقتصادية ومكافحة السلوكيات البيروقراطية وإضفاء الطابع اللامركزي على القرار.
انشغالات لم تجد من يحملها للاجتماع الأسئلة التي لم تجب عنها الثلاثية قال الأمين العام للنقابة الوطنية لمستخدمي الإدارة العمومية بلقاسم فلفول إن الثلاثية تبقى منقوصة النتائج ولم تجب على العديد من الأسئلة، وهذا لكون الحكومة تركز على الملفات الاقتصادية فقط، وتتفادى الوظيف العمومي، لأن "الباترونا" حسبه لا علاقة ولا شأن لها بالوظيف العمومي. وأوضح فلفول في تصريح ل "الشروق" أن الحكومة يجب أن تكف عن تجاهل النقابات المعنية بالوظيف العمومي ويجب أن تشركها وتنظم معها لقاء وجها لوجه، معرجا على قضية إلغاء المادة 87 مكرر، واعتبر أن قانون 90/11 حمل تناقضا في حد ذاته ما بين المادة 3 والمادة 87 مكرر، حيث تنص المادة 3 على أن القضاة والعسكريين والمنتسبين للوظيف العمومي يخضعون لأحكام تشريعية وتنظيمية خاصة، في حين تأتي المادة 87 مكرر من نفس القانون وتدرج الموظفين ضمن الذين تحتسب المنح والعلاوات الخاصة بهم ضمن الأجر الوطني الأدنى المضمون وليس خارجه. ومن الأسئلة التي لم تجب عليها الثلاثية حسب فلفول، قضية إلغاء المادة 87 مكرر وكيفية تطبيقها التي ما زال يلفها الغموض، فالحكومة لم تشرح بالتفصيل بعد كيف ستتم العملية، وقال: "مبدئيا، الإلغاء معناه أن كل الموظفين مهما كان تصنيفهم ستخرج المنح والعلاوات الخاصة بهم من احتساب الحد الأدنى الوطني المضمون للأجر، لتكون إضافة للأجر"، مؤكدا أن الحكومة لم تشرح بعد إذا كانت المنح والعلاوات ستستثنى من الضريبة على الدخل العام"إ.أر.جي"، أم ستشملها كذلك، مشيرا إلى أنه وفق المعطيات الحالية فالضريبة على الدخل العام لا تطبق تحت سقف 18 ألف دينار. فلفول: اجتماع الثلاثية منقوصة النتائج وأبقت على الغموض وتنص المادة 87 مكرر التي تم اعتمادها سنة 94 في عز الأزمة الأمنية والاقتصادية التي دفعت بالجزائر إلى الاستدانة الخارجية، حرفيا على ما يلي: "يشمل الأجر الوطني الأدنى المضمون، المذكور في المادة 87 أعلاه، الأجر القاعدي والعلاوات والتعويضات مهما كانت طبيعتها، باستثناء التعويضات المدفوعة لتسديد المصاريف التي دفعها العامل. ورحب مسؤول السناباب ب إلغاء المادة 87 مكرر رغم الضبابية التي ما زالت تلفه، لأن مطلب النقابات كان دوما إخراج المنح والعلاوات مهما كانت طبيعتها من "السميغ"، وجعل الأجر القاعدي يبدأ من 18 ألف دينار فما فوق، وأضاف بعد تحقق الخطوة الأولى سنطالب بأمور أخرى على غرار نسبة الضريبة على الدخل العام "إ.أر.جي" المطبقة حاليا.
كيف جاءت ولماذا وكيف تم إلغاؤها؟ قصة "الأفامي" مع المادة 87 مكرّر اقتصر قانون العمل 90 / 11 المتعلق بعلاقات العمل، على المادة 87 فقط، والتي مضمونها: "يحدد الأجر الوطني الأدنى المضمون المطبق في قطاعات النشاط بموجب مرسوم، بعد استشارة نقابات العمل والمستخدمين والتنظيمات النقابية الأكثر تمثيلا. ويراعى عند تحديد الأجر الوطني الأدنى المضمون، تطور ما يأتي: متوسط الإنتاجية الوطنية المسجلة، الأرقام الاستدلالية لأرقام الاستهلاك،الظروف الاقتصادية العامة". غير أن دخول البلاد في أزمة حادة في العام 1994، وصلت حد العجز عن سداد حاجة الجزائريين من الغذاء، وكذا العجز عن سداد الديون وخدماتها، اضطرار الحكومة آنذاك للاستنجاد بصندوق النقد الدولي، من أجل جدولة الديون مقابل الحصول على قروض جديدة. عندها كانت شروط صندوق النقد الدولي قاسية جدا على الجزائر، ترتب عنها تسريح مئات الآلاف من العمال، بل وفوق ذلك، اشترط سن المادة 87 مكرر، والتي قننت كما هو معلوم، إدراج المنح والعلاوات ضمن الأجر القاعدي المضمون، في محاولة من خبراء صندوق النقد الدولي، تحقيق النجاعة المطلوبة، أملا في تمكن الجزائر من سداد قروضها الخارجية. غير أن استمرار هذا الوضع بات غير مقبول من الناجيتين الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما بعد أن تمكنت البلاد من سداد كافة ديونها الخارجية، مستغلة الطفرة التي شهدتها أسعار النفط مع بداية الألفية الثالثة، فكان لا بد أن تذهب أعباء "الأفامي" مع سداد آخر دولار من ديونه.
سيدي السعيد ل "الشروق": "حققنا مطالبنا في الثلاثية ولا أحد يمكنه إنكار ذلك"! اعتبر الأمين العام للمركزية النقابية عبد المجيد سيدي السعيد، القرارات التي أفرزتها الثلاثية الأخيرة إيجابية، ذلك أنها أكدت على تطبيق نتائج الثلاثية السابقة خصوصا ما تعلق بإلغاء المادة 87 مكرر من قانون العمل، والعقد الاجتماعي والاقتصادي، وقال في اتصال مع "الشروق" أن الحديث عن إخفاق الاتحاد العام للعمال الجزائريين في مفاوضة الشركاء واقتطاع حقوق العمال، مجرد "كلام" يصدقه فقط متحدثوه" وأن ما تم تحقيقه لا أحد يمكنه إنكاره، وتساءل ماذا ربحت الباترونا بالعكس فقد دعمت هي الأخرى مطلبنا في إلغاء المادة 87 مكرر، وأشار إلى أن النضال سيبقى مستمرا للحصول على مطالب أخرى لفائدة العمال.