كان أول ما واجهني من صعوبات أحسست به باكرا هو تعلم اللغة فقد كانت والدتي من عرش أولاد سلطان وكانت كثيرة الاختلاف لأهلها بسبب اغتراب أبي، وكان والدي من عرش أولاد علي، فكنت أتعلم لغة أهلها، وحين تعود لبيت الزوجية أشقى في تعلم لغة أهل والدي .. والعرشان مختلفان في لهجة اللغة رغم أنها لغة واحدة وهي الشاوية (….) إن شاوية أولاد علي تنتهي جملها الفعلية بحرف الخاء فيما شاوية أولاد سلطان تنتهي بالغين، فضلا عن عشرات الألفاظ المختلفة بين العرشين والأصوات الفارقة، فكان أخوالي بسبب اللغة ينسبونني لأولاد علي متفكهين، وكان أولاد علي ينسبونني لأولاد سلطان ساخرين .. ومن المعلوم أن كل عرش يعتبر نفسه هو شعب الله المختار في الكون كله .. وذك هو منطق العصبيات في كل مكان وزمان .. وقصيدة عمرو بن كلثوم الجاهلية خير معبر عن تلك الروح من التعصب القبلي المستعلي المتباهي المقيت .. ولعلي عرفت نسبية الأشياء من هذا التفاخر الكاذب .. وحين شرعت أمي تعلمني بعض اللفاظ العربية لأستعملها حين تزور عمتها التي تزوجت في بريكة كما كانت تعد؛ مثل الضمائر البارزة: أنا أنت وهو وهي .. ومثل كسرة الخبز والماء والمغرف ونحوها من الكلمات التي ترتبط بالحاجات المباشرة للكائن .. وأعجب اليوم، من أين واتت والدتي الالفائية هذه البيداغوجيا في معرفة أن التعلم الصائب هو ذلك التعلم الوظيفي الذي يعبر عن حاجات الفرد واهتماماته وميوله .. والحق أن تلك الزيارة لم تتم مطلقا ولكني اكتسبت رصيدا من الألفاظ العربية في طفولتي الأولى وبهذا الاعتبار، إضافة إلى ما في الشاوية من حشود الألفاظ والعبارات العربية الجاهزة والشروع المبكر في حفظ القرآن، تعتبر العربية هي لغة الأم لدي من غير تجن أو تحريف للحقائق.. مع أن الشاوية طبعا هي التي كانت لغتي الأساسية حتى سن الرابعة عشرة.. وكلمة لغة الأم عندنا في العربية غير دقيقة؛ والمقصود بلغة الأم هي اللغة الحاضنة.. أي اللغة التي يتعرض لها الطفل في نشأته الأولى ولا تعني العبارة اللغة التي تمارسها الأم في بيتها مع طفلها كما يتبادر للذهن لأول وهلة وبهذا الاعتبار فإن العربية هي أيضا لغة الأم لكل الجزائريين شاوية كانوا أم قبائل أم ميزابيين أو شلحيين. والأحلام في الطفولة الأولى لا تتميز عن وقائع الحياة؛ فقد حلمت مثلا أن إحدى بنات أخوالي من الأتراب واسمها فتيحة؛ قد أسقطتني في البئر التي كانت بجوار كوخ جدتي لأمي، وظل هذا الحدث بارزا في فكري وفي ضميري وهو حدث لم يتم في الحياة الواقعية قط، وربما الذي حدث كان مجرد تهديد أو كلمة قيلت أو هاجس خوف أو تخويف .. وظللت بهذا الحلم أكره تلك الفتاة وأهابها في الوقت نفسه .. ولا تختلف أحلام النوم عن أحلام اليقظ، فقد كنا في هذه الفترة السحيقة من الطفولة المبكرة ننام صيفا في صحن البيت بدل الغرفات بسبب الحر الشديد، وكان والداي يتناجيان فيما لا أعلم وكانا يداعباني وأنا أتوسطهما في الفراش وتحدثت إليهما ببراءة عن النجوم الساطعة التي كانت تملأ السماء في ليل صيفي، وأشرت بإصبعي الصغير إلى شهاب كان يخترق الفضاء اختراقا مباغتا، وبادرت وقلت لوالدي في حال من الغيرة المبهمة، إن زوجتك هي تلك النجمة الهاربة .. أعني أحد تلك الشهب الخارقة لسمت السماء الفسيح، ولأن والدي لا خيال له ولا شاعرية ولا قدرة على فهم أحيائية الطفولة وخيالها، اوأنه تشاءم من كلام صبي، غضب مني غضبا شديدا، وعلى العكس من ذلك كانت الأم أكثر شاعرية وأكثر فهما للموقف، فخففت من غلواء غضب والدي علي وتمت تسوية بينهما لم أدركها، وسكت عنه غضبه أمام سماء مرصعة بالنجوم ولابد أن تكون تلك الشهب قد داعبتني وداعبت جفوني الناعسة وأسلمتني إلى نوم عميق… كان والداي يتخاصمان كثيرا وكنت أحيانا سبب ذلك الخصام، فقد حدث مرة أن ركضت بملء قوتي حين رأيت كلبة عمتي تقترب مني؛ وتسبب ركضي الناشئ عن الرعب في سقوطي على شظية حجر حادة شجت شفتي العليا جهة اليسار مايزال أثرها باقيا حتى اليوم وقد تدثر بشعرات الشارب المسدل عنه؛ وكان والدي في السوق ولما عاد، طلبت منه الوالدة وهي في حالة هيجان أن يتدخل لدى أخته ويزجرها على ما فعلت بي كلبتها؛ ولكن والدي تخاذل وتقاعس ولم يفعل ولم ير بالأحرى سببا وجيها ليلوم به أخته، فتشاجرا شجارا صاخبا نتج عنه غضب أمي بمغادرة البيت وكانت وجهتها نحو بيت عمي مادام يتعذر عليها الذهاب لبيت أهلها البعيد في نقاوس .. وبالطبع كنت قد ذهبت مع أمي بشفتي المفروفة المنتفخة في غضبتها التي خمدت في الغد؛ وعادت إلى البيت كما لو أن شيئا لم يحدث….يتبع ..