ظل طرح مؤسسة مفتي الجمهورية أمرا يثير بعضا من النقاش بين رجال الدين والسياسيين بمختلف مشاربهم الإيديولوجية، في وقت كان فيه مقترح تنصيب مفتٍ للجمهورية أكثر من رهان بالنسبة للسلطة في وقت سابق، بالخصوص مع بداية خروج البلاد من عشرية دموية امتزجت فيها الجرائم المختلفة بطابع ديني فرضته فتاوى طائشة من مرجعيات دينية خارجية معروفة بالتطرف والغلو في مواقفها واجتهاداتها.. السلطة اعتبرت منذ طرح الفكرة أنّ مؤسسة الإفتاء الجمهورية أشد رد على الذين يحاولون المساس بالهوية الدينية للبلاد، وبالمرجعية الأساسية للشعب الجزائري الذي حصن دينه منذ قرون بالمذهب المالكي الذي يعتبر من المذاهب الإسلامية المعروفة باعتدالها ووسطيتها، وكذلك بتطابقها مع شخصية وعادات وتقاليد المجتمع الجزائري. محمد عيسى الذي خلف نفسه مؤخرا على رأس وزارة الشؤون الدينية والأوقاف في التعديل الحكومي الأخير، قام منذ توليه حقيبة الوزارة في فتح جبهة متعددة ضد من يوصفون بأصحاب المذاهب الدخيلة على المجتمع الجزائري، من حاملي المذهب الشيعي وغيرها من مذاهب أهل الكتاب وهو الذي ظل يرافع لما سماه بإسلام قرطبة الذي ميز الحضارة الإسلامية في الجزيرة الأيبيرية طيلة حوالي ثمانية قرون، هذا الوزير كان قد اقترح تحويل المجلس العلمي الوطني إلى "هيئة إفتاء" بحيث ينتخب رئيسه من ضمن أعضاء، ويبقى ملف تعيينه بيد رئيس الجمهورية، وهنا يطرح التساؤل حول البعد السياسي للمفتي العام للجمهورية، الذي حتما لن يخرج من عباءة السلطة التي تستفرد في تعيينه وفرضه شيخا أوحدا على الشعب، وإذا تم الاعتماد على هذا الرأي فإن مصداقية الشيخ ستضرب في الصميم سواء من الأحزاب السياسية أو من عموم المواطنين.. وهذا سيكون في حد ذاته طعنا في مؤسسة دينية لا بد من احترامها والامتثال لكل ما يصدر عنها باعتبارها تحمل صفة الوطنية الشاملة، وفي الجانب القضائي سيطرح أيضا إشكالية تداخل السياسي بالديني في القضاء، لأن المفتي ستكون من بين أبرز مهامه التصديق على بعض القضايا الشائكة التي يرفعها إليه القضاء مثلما هو حاصل بالنسبة لمفتي مصر والسعودية. في الحالة المصرية اعتبرت إحالة أوراق الرئيس المصري المعزول محمد مرسي وأكثر من مئة شخصية من رفاقه إلى مفتٍ للجمهورية للنظر في قرار الإعدام الذي حكمت به محكمة الجنايات بالقاهرة، خانة سوداء في نظر الكثيرين الذين اعتبروا القضاء المصري الحالي في دولة الانقلاب ليس نزيها ولا مستقلا وهو تحت وطأة نظام عسكريارتي من بين أبرز أولوياته الحالية محاربة معارضيه سواء من الإخوان المسلمين أو غيرهم من الذين نددوا بهذه السلطة القائمة بقوة السلاح والدعم الخارجي.. ففي الحالة المصرية يعتبر المفتي الشخصية الشرعية والقضائية الأولى التي تنظر في الشق الجنائي، أي ما يتعلق بالإعدامات، فهذه المسألة تنظمها قوانين الإجراءات الجنائية، بإحالة القاضي أحكام الإعدامات إلى مفتي الجمهورية للنظر فيها، ودار الإفتاء المصرية بها لجنة من مستشاري وزارة العدل، الذين يقومون بإعادة النظر في القضايا، ويرفعون تقريرا للمفتي، وهو بدوره يرفع تقريرا إلى المحكمة المختصة، وبما أنه وفق النصوص القانونية في قوانين الجنايات والإجراءات الجنائية المصرية يعتبر رأي المفتي استشاريا يستأنس به القاضي، ويمكنه ألا يأخذ به وفق سلطته التقديرية، فعن أي دور شرعي وقضائي يمكنه أن يلعبه مفتي الجمهورية في هذا الشأن ؟؟. يتأكد يوما بعد آخر، أن مأزق الفتوى في الجزائر يزداد، وخلافات المنتسبين إلى هذا المجال تتعمق هوتها على الرغم من أن الدين واحد، ولذلك فإن الدولة إذا أرادت بالفعل الخروج بموقف سليم في هذا الإطار فإنه وجب عليها ترك المهمة للوزارة المعنية التي تقوم بجمع أبرز الشخصيات الفقهية الوطنية في مجمع فقهي يحتكم للدستور وقوانين الجمهورية، وينتخب بطريقة ديمقراطية الرجل المناسب الذي يقود المجمع الديني لفترة، ويتم التداول على هذا المنصب الحساس حتى لا يصبح الشيخ "ملالي إيراني" أو مرشدا على المنهج الإخواني.. وخاصة أن القادم من الأوضاع يتطلب الرجال المناسبين حتى لا نقع في المأزق السابق، أين أصبحت الدولة تنتظر شيوخا من الخارج ليقفوا إلى جانب المرجعية الوطنية بالدليل الديني على شيوخ آخرين من الخارج، وتجربة الغزالي والقرضاوي والبوطي تسترعي الانتباه مرة أخرى..