لقد أحسن الفرنسيون دراسة المجتمع الجزائري قبل حادثة المروحة، من خلال طلائع المبشرين والمستشرقين والرحالة التي حفظت لنا كتب التاريخ أسماؤهم ونشاطاتهم المشبوهة، والتي انتهت في مجملها إلى تعبيد الطريق أمام أخبث استعمار في العصر الحديث ليعيث في بلاد أحفاد ماسينيسا وطارق بن زياد فسادا. وهؤلاء لما احتلوا الجزائر بالقوة والبطش ذات 1830 درسوا تركيبة المجتمع، ومؤسسات صناعة الوعي وتوجيه الرأي فيه، فاهتدوا واستقروا على أهمية المؤسسة الدينية آنذاك ممثلة في الزوايا والطرق الصوفية التي تعج بها البلاد، ضاربة بأعماق جذورها في التاريخ والجغرافيا، وهو ما حدا بفرسنا الاستعمارية إلى استمالتها من أجل إخماد الثورات والمقاومات التي أعيت المحتل وأصابته في مقتل ومهدت لثورة عارمة طردته شر طردة. هذه الحقيقة الموضوعية التي غفل عنها الكثير من السياسيين والباحثين في جزائر ما بعد الاستقلال، حتى أن حقبة زمنية من تاريخ الدولة الوطنية الحديثة عرفت فتح جبهة حرب قوية ضد المؤسسة الدينية هذه والتي عرفت في أدبيات هؤلاء بالتقليدية، تحت تأثير مد فكري وافد ديني ولا ديني، أسقطه المتشربون له على المجتمع الجزائري بحيثياته دون مراعاة لخصوصيات المجتمع الجزائري وحياته اليومية المرتبطة بالولي الصالح، الزاوية، القرآن، الضريح، الوعدة، المولد النبوي، عاشوراء، وغيرها من المفاهيم المرتبطة رمزيا بالمؤسسات التي تصنع الوعي في المجتمع وتوجهه. وفي هذا المقام يمكن الرجوع مجددا إلى تاريخ فرنسا الاستعمارية، وكيف حاولت توجيه قرارات هذه المؤسسات عبر المال وأشياء أخرى، تأسيسا منها لعقلية القدر المحتوم مثلا لوأد فكرة مكافحة الاستعمار ومقاومته في الضمير الجمعي للمجتمع الذي يسير تحت توجيهات وإرشادات هذه المؤسسات، فضلا عن سعيها الدؤوب في افتعال نزاعات بين تمثيلات المؤسسات الدينية بإيغار الطرق الصوفية أو المدارس السلوكية بعضها على بعض، والتقرب من بعضها دون البعض الآخر تحت باب ''فرق تسد''، وزادت في الأمر بعد نجاحها إلى حد ما في التأسيس لرابط نفسي لاسيما عند الطبقة المثقفة بين الزوايا والطرق الصوفية والخرافة. وللأسف هؤلاء الذين الين تأثروا بالمد الفكري الخارجي الوليد في بيئة وفقا لمعطيات مجتمعية غير المعطيات المحلية أفرغوا جهدهم لتحطيم الزوايا والطرق الصوفية تحت ذرائع مختلفة، كمكافحة الرجعية الفكرية أمام الحداثة والتنوير وليد الحضارة المادية، او محاربة للبدعة الملتبسة بالدين الإسلامي الحنيف على رأي المتأثرين ببعض ما يسمى بالحركات الإصلاحية أو السلفية (القول بأنها إصلاحية وسلفية من باب ترديد الأسماء والمصطلحات الشائعة، وإلا فلنا رأي آخر عند تحليل مضامينها). والنتيجة التي وصلنا إليها بعد سنوات من عمل غير علمي ولا وظيفي، بعيد كل البعد عن المعطيات الواقعية والمعالم السوسيولوجية التي تحكم مجتمعنا وتصنع رأيه ووعيه، هو تحطيم شبه كامل للمرجعية الدينية في الجزائر، بعد أن أزيح رواد المدارس السلوكية وعلماء البلاد وفقهاؤها، وأعطيت مكانتهم لأمثال ''الطوليي'' و''الجوّاج'' و''الفولور'' و''فليشة'' بقصد منا أو دونه والكل يعلم ماذا حصل بعد ذلك، عشرات الآلاف من القتلى وتأثر مسار التنمية والتحديث والتطور في البلاد، وتجرع مرارة إقصاء عامل سوسيولجي هام في المجتمع الجزائري من أداء دوره في حماية المجتمع والحفاظ على استقراره. والملفت للنظر والجميل في نفس الوقت أن هذه المؤسسات الضاربة في أعماق التاريخ لم تُحطَّم، وإنما أزيحت أو عرقلت عن أداء دورها وضيق عليها في هذا الجانب، لأنه من المستحيل بمكان تحطيمها أو إلغاؤها أو حتى النيل منها، وذلك لأسباب موضوعية؛ تاريخية وثقافية واجتماعية وأنتربولوجية. ولا يجب التركيز كما يفعل البعض على بعض الجوانب السلبية في المماراسات والتعامل مع رموز وإيحاءات هذه المؤسسات المجتمعية (الزاوية، القبة، الضريح، الولي، المقام ...إلخ)، لأنه لا يجب إبعادها عن طابع التعاملات البشرية التي يعتريها الصحيح والخطأ، كما يعتريها الصحيح والأصح، والحسن والأحسن، بقدر التركيز على المبادئ والثوابت والقيم التي تحكم هذه المؤسسات والتي ينعكس دورها بجلاء وقوة تأثيرية على حركية المجتمع برمته. ولا غرابة فلقد ألجئت إلجاء للكتابة في هذا الموضوع، وأنت تسمع من يستمر سلبيا من خلال حديثه عن أن الرئيس الفلاني، ''نتاع زويي''، والسياسي الفلاني ''طرقي''، والغائب عن هؤلاء أنه من الجميل أن يكون هؤلاء كذلك، كيف لا والمسألة من صميم قواعد حركية المجتمع الجزائري، لكن الأجمل أن هؤلاء فاقهون لمنطلقات ومفعّلات حركية المجتمع الجزائري وصناع وعيه وقرارته ومشكلي ضميره الجمعي، باعتبار إقصائها إقصاء للمعني عن المجتمع لا إقصاء لها عن المجتمع، ولمن لا يريد الاقتناع فما عليه إلا دراسة بعض النماذج السوسيولوجية في مشارق الأرض ومغاربها ممن يقاسموننا الكثير في هذا الجانب. وللحديث بقية، وما أجمل ما يبرر أبناء المدارس السلوكية والطرق الصوفية وهم مندمجون في الحياة الاجتماعية للبلاد دون إغفال منهم لحياتهم الروحية بقولهم ''الجسد في الحانوت والقلب مع الملكوت''.