ص10 تفسير المؤمنين لللشيخ أبو جرة سلطاني الجزء الرابع لقد كشف عن هذا المعنى العقدي رئيس وفد المفاوضين المشركين الذين أرسلوا لرسول الله (ص) شخصيات كثيرة يوم الحديبية فخاب مسعاهم إلى أن جاء سهيل بن عمرو الذي كشف عن هذه الفروق الدقيقة في عقيدة أهل الشرك عندما رفض كتابة صيغة البسملة بلفظ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وطلب استبدالها بصيغة "باسمك اللهم" كما رفض صيغة "محمد رسول الله"، وأصرّ على أن تكتب "محمد بن عبد الله" وبررها بقوله: لو آمنا (أو علمنا) أنك رسول الله ما حاربناك!! مغازي الواقدي :02-610، وهي الحقيقة التي كشفت عنها آيات كثيرة من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى "قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ(31)، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ" يونس:31/32، كما سوف يأتي بيانه في جميع ما أُنزل من الوحي على محمد(ص) لاسيما السور المكية، كونها كانت تواجه واقعا جاهليا مغمورا في الشرك والوثنية، فكان التنزيل صارما في قضايا العقيدة التي أذاعها الحق (جل جلاله) دفعة واحدة لا تدرّج فيها ولا ناسخ ولا منسوخ، بخلاف الأحكام والتشريع والعلاقات الإجتماعية والمعاهدات والعقود والمواثيق..التي راعى فيها التشريع التدرّج المتناسب مع حركة بناء العقيدة وتأسيس الأسرة والمجتمع والدولة بين بداية نزول الوحي إلى الهجرة، وما تلا ذلك من أحداث إلى يوم فتح مكة، حيث توقفت حركة الهجرة وصار لدولة المدينة سلطان سياسي وامتداد جغرافي وهيبة في القلوب والنفوس..ولم يعد أحد يخشى على نفسه الفتنة في دينه، فأذاع رسول الله(ص) بيان رفع الحرج عمن لم يهاجر، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "لا هجرة بعد الفتح، لكن جهاد ونية" متفق عليه، وفي حديث مجاشع بن مسعود، أنه جاء بأخيه مجالدا لكي يبايعه النبي (عليه الصلاة والسلام) على الهجرة، فقال "قد مضت الهجرة لأهلها"، رواه البخاري في سياق الحديث السابق:"لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا". هذه بعض "الأجواء" النفسية والاجتماعية والتاريخية التي تنزّل فيها القرآن الكريم، والتي يجب أن تكون حاضرة معنا اليوم ليفهم المتعامل مع الوحي معنى خطاب الله للناس عامة ولأهل الكتاب جميعا ثم للمؤمنين خاصة، وهي "الأجواء" التي تتحرك فيها هذه السورة التي تتناول بالحديث أربع فئآت من الناس أمام هدي الله والدعوة إلى عبادته وحده لا شريك له والإستعانة به وحده دون سواه وسؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم..وهم: -الموحدون الذين أيقنوا أن العبادة تستغرق حركة الحياة كلها. -المشركون الذين اتخذوا من دون الله آلهة، أو عبدوا مع الله غيره. -المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق ويخفونه عن الناس. -الضالون الذين يعتقدون أنهم مهديون أو مهتدون، ولكنهم عن الحق زائغون.
هذه هي فئات المجتمع القديم الذي نزلت فيه سورة الفاتحة، بدأها الله باسمه الكريم "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ليكمل سناها ويستقر في عقيدة المؤمنين أنْ لا شيء يتحرك في هذا الكون إلاّ باسمه، فكيف لا يُقرأ القرآن باسمه، ويفتتح كلامه باسمه الرحمان الرحيم ليكون الحمد كله لله. سبق لنا تفسير معاني البسملة للخروج من الجدل الفقهي القائم حول معنى السبع المثاني في قوله تعالى "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ" الحجر: 87، فبالبسملة تكون آيات سورة الفاتحة سبعا، وبغيرها تكون سبعا كذلك، بالوقف اللازم عند قوله تعالى "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" لتكون الآية السابعة "غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"، ومع اعتقادنا أن المقصود بالسبع المثاني هي الآيات السبع لسورة الفاتحة، إلاّ أن هذا الوصف الذي ينطبق عليها يمكن أن يسري على غيرها مثل سريانه على صفة السور السبع المبدوءة ب "حم" وهي فاطر : "حم تَنزِيلٌ مِّنَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الحليم" وفصلت"حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" و الشورى"حم. عسق، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" والزحف "حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ" والدخان "حم وَالْكِتَابِ الْمُبِين" والجاثية"حم تَنزِيلٌ مِّنَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الحليم" والأحقاف "حم تَنزِيلٌ مِّنَ اللَّهُ الْعَزِيزُ العليم" لاحتفائها جميعا بالتنزيل، وحسم معركة الوحي التي كانت العقبة الكؤود أمام حركة الدعوة في المرحلة المكية، كما أشارت إلى هذه الحقيقة الدعوية توجيهات المصطفى (ص)، ولما سبق بيانه من تعليمه (ص) الفاتحة لبعض الصحابة بشكل فردي والتعريف النبوي لها بأنها هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أنزل عليه، كون الفاتحة هي "مفتاح" كل سورة، وما في القرآن كله متضمن فيها لأنها أم الكتاب، فلا يمنع أن يكون في مثانيها أصل لما في مثاني القرآن العظيم، والله أعلم.