الجزء الثالث عشر الخاضعون لله أحرار و غير العابدين عبيد فالعابد قد اختار وجهته وحدّد مقصده وتجرّد من حول نفسه وطوْلها إلى حول المعبود وقوته بإرادة ذاتية منه، فإذا سأل العون على الذكر والشكر والطاعة- من غير المذكور المشكور المطاع اختلت معادلة "إياك نعبد وإياك نستعين" عن سياق التوحيد الذي أراد الحيّ المعبود إدراجها فيه وهو تخصيص المخصص بالعبادة وتقييد النفس بشرْط طلب العون ممن خصّه العابد بالعبادة لتوحيد مصدر التلقي ومقاصدية التوجّه ووسائل الوصول.. هل توجد حرية في الكون أرحب من هذه الحرية؟ وهل يمكن لكائن من كان أن يزعم أن أي حرية يمكن أن تصبح كاملة إذا لم يكن فيها الخضوع الكامل للخالق وحده الذي يشعر العابدون وحدهم دون سواهم، أنهم هم الأحرار وغيرهم من غير العابدين عبيد!! وتأمل هذا المثل البديع الذي يستحق الله عليه الحمد بعد الحمد: "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ" الزمر:29، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، فهم لا يعلمون حقيقة التوحيد وحقيقة الحرية وأمانة المسؤولية..فالاستعانة المطلقة بالله وحده – بعد عبادته سبحانه وحده- هي التي تحرر الإنسان من ذل الخضوع لغير الله، ومن سؤال العون من مشابه له، قد يكون اليوم قويا بماله أو بسلطانه، ولكنه غدا لن يكون قادرا على ضمان استمرار قوته، وهو اليوم قادر بما بين يديه من قوة وهيبة وسلطان..وغدا تذهب الأغيار بتسط من هو أقوى منه عليه، أو بقهر من هو أقدر عليه منه من البشر، أو من قبل الذي هو على كل شيء قدير، فيغيبّه بالموت أو يقلب له الدهر ظهر المجن، ويغير أحواله كرُّ الجديدين؟ أيليق بإنسان حرّ الإرادة ترْك القوي ذي القوة المتين واللجوء إلى من خلقه الله من وهن وطين؟ وهل يتحرر من جواذب التراب حقًا من يستعين بمخلوق من تراب؟ لقد بدأت السورة بحمد الله، والتعريف بأنه رحمن رحيم، وبأنه مالك يوم الدين، وكأنها تحدتث عن غيب لا يؤمن به إلاّ باحث عنه، فلما تجلّى في ملكه مالكا ليوم الدين استدار الخطاب من الغيبة إلى الحضور: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" فما أبلغ تحويل الله (جل جلاله)خطاب الغائب فجأة إلى حضور، فقد بدأت السورة بحمد الله الموصوف بالربوبية للعالمين والمهيمن بربوبيته على العالمين والمعروف برحمانيته في الدنيا ورحيميته في الدنيا والآخرة، والمالك وحده ليوم الفصل بين المتقاضين والحكَم وحده بين المتداينين..فلما صار البيان واضحا في المنهج والعبادة..استدار الخطاب إلى حاضر مشهود وإآه معبود..، وتحوّل فجأة من خطاب، الغائب- الموصوف بصفات الكمال المطلق- إلى خطاب حاضر لمعبود ماثل في الكيان والوجدان والجنان في مقام الإحسان الذي يجعل المحسن يعبد الله كأنه يراه فإن عجز عن الرؤية البصرية لقصور في الأبصار أو لعلّة في الإبصار والبصيرة، فإن الإدراك يجعل المعبود حاضرًا بالحمد والألوهية والربوبية والملوكية والدَّينونة، لأن العجز عن الإدراك إدراك، فالعاجز عن إدراك "كنْه" عقله مدرك أن عقله موجود، لذلك لم يتتابع خطاب الاعتراف بالعبودية وطلب الاستعانة بأسلوب الغياب بل التفت إلى أسلوب الحضور الجماعي بالقول بلسان الجماعة العابدة المذعنة لربها، لأن أمة التوحيد كيان واحد، تعبد ربا واحدا بمنهج واحد، لتكون العبادة لحظة تسبيح كونية خاشعة تملأ الكون كله تلاوة وركوعا وسجودا وذكرا..لا تنقطع تسابيحها فوق وجه الأرض ولا في السماء، فكلنا : "وإِن ْمِن ْشَيْئٍ إِلاَّ يُسَبِّحٌ بِحَمْدِهِ" لأنك أنت وحدك الخالق، الرازق، الحي، القيوم، القوي، المعز، وعبادتك يا رب مستحقة لك وحدك لأنك "رب العالمين" والإستعانة بك وحدك قرينة العبادة لأنها هي نفسها عبادة إذا توجّه بها السائل لذاتك لأنك "الرحمن الرحيم" والمعركة بين أنصار المنهجين، (منهج الإيمان ومنهج الشيطان) شاهدُها الحق وحده، والحق أنت لأنك أنت وحدك مالك يوم الدين، فلا مناص من أن تكون حاضرا في ملك أنت بسطته وشاهدا على معارك الحق والباطل بناموس أنت ضبتطه، فأنت بسطت الأرض أنت ضبطت أسبابها وحددت مقاصد العيش فيها والموت فيها والإخراج منها.. وتركت للناس فرصة الأخذ بالأسباب وطي الكواشح على النوايا، وأنت الذي أجلت النتائج في مقاصدها وغاياتها إلى يوم الفصل لتكون أنت وحدك الفاصل بين الناس في ما كانوا فيه يختلفون، لأنك خصصت للدين يومًا وجعلت نسبته للمداينة ليكون "يوم الدين" وتكون أنت مالكه وحدك بلا ندّ ولا شريك، وهو يوم "عندك" أنت بحساب علمك لا نعلم عنه شيئًا إلاّ كونه يوما فاصلا بين حياة فانية وأخرى باقية: "يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" النور:25، هو يوم لا كالأيام التي تحكمها حركة الشمس والأرض والقمر والأفلاك، فما طلعت عليه الشمس فهو نهار وما غربت عنه فهو ليل!! إنه يوم لا شمس فيه إلاّ الشمس الدانية من رؤوس العباد: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ" فلا ظل إلاّ ظل الله ولا ملك إلاّ لله: "الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا" الفرقان:26. هذا اليوم بكل صفاته:مِلْكا وملكًا ومالكًا ومَلك..كله أمره لله وحده، فالمعبود أنت وحدك والمستعان به أنت وحدك في دنيانا التي قضت مشيئتك أن تحكمها الأسباب بعلمك، أو في أخرانا يوم تتقطع الأسباب، فأسبابنا في الدنيا محدودة إلا من آتيته من كل شيء سببًا، فلا تتخلى عنا إذا استنفدنا الأسباب ونُقلت حركة الحياة بنقلة التراب من عمل الأسباب المسخرة إلى مشيئة المسبب المقدرة فهو (جل جلاله) وحده خالق الأسباب ومسخّرها لتعمل بمشيئته، فإذا شاء عطلها عن العمل فاختلت موازين الكون كلها: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ" الأنعام:73. فهل تعمل الأسباب إلاّ بإرادة خالقها ومُودع الحركة فيها؟ يتبع..