تفسير المؤمنين للشيخ ابو جرة سلطاني الحلقة 03 الظاهرة القرآنية.. عروة وثقى لا انفصام لها إن جميع السور المبدوءة بالحروف المقطعة، وعددها تسع وعشرون سورة يرتبط فيها هذا المطلع الإعجازي بذكر القرآن الكريم بشكل مباشر وصريح بعد الحروف المقطعة- باسم: الكتاب، أو القرآن، أو الذكر، أو الآيات، أو التنزيل، بعد "مفتاح السورة" في ست وعشرين منها، والثلاث الباقيات، وهي العنكبوت والروم ومريم تختتم كل سورة بالإشارة المباشرة للقرآن الكريم، مما يمكن معه القول: إن هذه الحروف المقطعة هي "اللبنات" الصائتة التي بني منها هذا الكتاب المعجز، وهي "مادة خام" متاحة للجميع، ولاسيما منهم أساطين اللغة وفرسان القلم، ولكن القرآن تحداهم جميعا إنْسهم وجنهم أن يأتوا بآية من مثله وأن يدعوا شهداءهم من دون الله إن كانوا صادقين في زعمهم أن الذي علم رسول الله(ص) القرآن الكريم أعجمي يلحدون فيه وسبحان منزل هذا القرآن الذي جعل خاتمة سورة مريم قوله تعالى "فإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا(97) وَكَمْ أَهْلكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا(98)" مريم:97 /98، والميّسر للذكر بلسان الرسول(ص) هو القرآن الكريم، ولما يذكر الكتاب بعد الحروف المقطعة في مستهل سورة العنكبوت ختمها به قائلا: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ(68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)" العنكبوت:68 /69، وهل كان "الحق" الذي جاء للناس إلاّ كلامه المعجز (القرآن الكريم)؟؟ ولما لم يظهر ذكر الكتاب في مستهل سورة الروم اختتمها الله جل جلاله بقوله "وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ(58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ(59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ(60)" الروم:58 /60، فتأكد أن الحروف المقطعة التي جاءت في هذه السور كلها كافتتاحيات إعجازية لها إعجاز آخر، وهو أن الله أراد أن يكون النبيُّ الأميُّ "عالما" بأصوات الحروف وصفات نطقها كما رواه الترميذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ"، وهو ما يدل على دقة التفريق بين كتابة الحرف وصوت النطق به، ثم إن هناك إعجازا آخر في هذه "الظاهرة القرآنية"، فالحروف التي اختارها الله لإبراز "شرفها" في بناء كلمات القرآن الكريم وجمله وآياته وسوره ليست كل الحروف الأبجدية الثمانية والعشرين، وإنما هي أربعة عشر حرفا فقط أي نصف الحروف الهجائية العربية المعلومة (14 حرفا من 28 حرفا)، أحد عشر منها غير منقوط وهي: الألف، والحاء، والراء، والسين، والصاد، والطاء، والعين، والكاف، واللام، والميم، والهاء، وثلاثة أحرف منقوطة وهي، القاف، والنون، والياء، وقد جمعها بعضهم في قول "نصّ حكيم قاطع له سرّ"، كما قاله ابن كثير في تفسيره01-66، ولا شك أن الزمن سيكشف بعض أسرار هذا الإنتقاء الرباني ذات يوم، لكن الملاحظ في السور المفتتحة بهذه الحروف المقطعة أن نطق الحروف توقيفي، بدليل أنه عندما نقرأ "آلم" في أول سورة البقرة نقرأها بالتقطيع (ألف. لام. ميم)، بينما نقرأها في سورتي الشرح والفيل مثلا بغير تقطيع (ألم نشرح لك صدرك) و(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، ثم إن هذه الحروف ترد في بعض السور آية مستقلة كما هو شأنها في سورة البقرة، وآل عمران، والأعراف، ومريم، وطه، والشعراء والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، ويس، وغافر، وفصلت، والشورى، والزحرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، أما في السور العشر الباقيات فليست الحروف المقطعة المبدوءة بها آيات مستقلة إنما هي "جزء" من آية، وهي السور الخمس المبدوءة ب "اآ ر" يونس، هود، يوسف، إبراهيم، والحجر، وسورة الرعد (آلمر)، والنمل (طس)، والسور الثلاث المبدوءة بحرف واحد وهي: ص (صاد)، ق (قاف)، والقلم (نون). فمن علَّم محمدا (ص) هذه "التقنيات" الإعجازية العالية؟ ولماذا ارتبطت هذه التقطيعات للحروف بحديث مسهب عن القرآن الكريم ربطا يجعل السورة كلها من بدايتها إلى نهايتها "وحدة موضوعية" واحدة يربط بين أجزائها خيط رفيع ولكنه شديد المتانة والإحكام هو "العروة الوثقى" لا انفصام لها، هو "عقيدة التوحيد" الواضح قرعها المتواصل على قلوب الإنس والجن في كل ما نزل من القرآن الكريم في مكةالمكرمة قبل الهجرة إلى طيبة التي استنارت بما نزل من سور في مكةالمكرمة، ليتواصل النور بما استكمل الله من تنزيل في رحاب يثرب التي صارت، بعد الهجرة إليها، تسمى المدينةالمنورة. إن هذه الظاهرة القرآنية لا تأتي على نسق واحد رتيب، ففي كل السور التي افتتحت بهذه الحروف المقطعة جاءت الإشارة الواضحة أوالضمنية للقرآن الكريم، لكن هذه الحروف المقطعة تأتي مرة آية مستقلة كما هو شأنها هنا في سورة البقرة- ومرة تأتي جزءا من الآية، لكن الملاحظ أن كل: ألفْ..لامْ..ميمْ، آية، وكل: حَاءْ..ميمْ، آية، وكل: طَاءْ..سِينْ..ميمْ، آية، وأغرب من ذلك أن الأحرف الخمسة المقطعة الصائتة الساكنة التي افتتحت بها سورة الشورى شكلت آياتين، فقد جاءت: حاءْ..ميمْ، آية، و: عينْ..سينْ..قافْ، آية ثانية، وهو ما جعل مفاتيح هذه السور المبدوءة بحروف تهجية صائتة متنوعة المخارج والتراكيب والنطق بالتسمية والدلالات، ولم يجعله الوحي عامة في جميع سور القرآن الكريم، كما لم يوظف كل حروف الهجاء وإنما اكتفى بنصفها فقط (أي أربعة عشر حرفا من أصل ثمان وعشرين)، ثم أنه نوّع "المفاتيح" فجعلها أربعة عشر نوعا هي: ألفْ..لامْ..ميمْ، ست مرات، حاءْ..ميمْ..ست مرات، ألف..لامْ..راءْ، خمس مرات، طاءْ..سينْ..مرتين، والبقية مرة واحدة، وهي: ألفْ..لامْ..ميمْ..راءْ، ثم طاءْ..سينْ..ميمْ، ثم ألفْ..لامْ..ميمْ..صادْ، ثم كافْ..هاءْ..ياءْ..عينْ..صادْ، ثم حاءْ..ميمْ..عينْ..سينْ..قافْ..، ثم ياءْ..سينْ..، ثم طاءْ..هاءْ..، ثم صادْ..، ثم قافْ..، ثم نونْ..بحسب ترتيب السور في المصحف الشريف، أي أن المفتاح المعجز قد يكون حرفا واحدا أوحرفين أوثلاثة أحرف أوأربعة أوخمسة أحرف، وقد يتكرر هذا المفتاح مرتين في سورتين مختلفتين إلى ست مرات في ست سور، كما قد يأتي مرة واحدة لا يتكرر، وقد يأتي كما ذكرنا- آية مستقلة وعددها عشرون موضعا كما قد يأتي جزءا من آية في تسعة مواضع، ومهما دققنا البحث واستخدمنا أدق الحسابات يظل العجز قائما أمام هذه الظاهرة القرآنية التي استعصت عن الكشف حتى الآن، لأن الله أوقفها والرسول (ص) نقلها كما نزلت، ولم يسأل عن فحواها أحد من الصحابة ولا عن أسرارها أحد من المشركين، ربما لأن الله صرف عنها العقول أو ربما بسبب أن السابقين الأولين كانوا جادين في أخذ هذا الدين بمقاصده، فلم يسألوا عما كانوا يرونه ترفا فعلموا أن العلم به لا ينفعهم ولا يزيدهم إيمانا وأنا الجهل به لا يضرهم ولا يقدح في استقامتهم، إذ يكفي أن يكون ذلك وحيا من عند الله ليكون الإيمان به واجبا حتى لو لم تعرف أسراره، وأبدع ما في هذه الظاهرة ارتباطها بالإشارة إلى الكتاب المبين، والكتاب الحكيم: وإسناد ألفاظه ومعانيه وأسراره وأحكامه وتشريعاته وقصصه ومواعظه وطريقة إنزاله كلها لله، وليس لمحمد (ص) فيها إلاّ حظ التلقي وواجب الإبلاغ والبيان عن ربه ليكون هذا القرآن كلام الله الخالص للبشرية جمعاء ويكون الرسول (ص) خادما للقرآن وصانعا منه قدوة في نفسه بما أراه الله، وهو ما اجتهد في إنفاذه، فالتزم بأوامره ونواهيه حتى أقام به مجتمعا متحركا فوق هذه الأرض على منهج العقيدة والتوحيد، ثم وضع أسس الدولة على هذا الهدي الرباني. يتبع…