تتّهم الروائية الإشكالية، فضيلة الفاروق، في هذا الحوار، الإعلام الجزائري بإفساد علاقتها بالقارئ الجزائري الذي تصفه بالسلبي وبأنه يقرأ فقط ليحاكم الكاتب، كما تتساءل صاحبة "تاء الخجل" عن سبب عجز المسؤولين في الجزائر عن تقديم الحلول للشعب في قضية اختطاف الأطفال التي تدعو إلى حلها بشكل علمي و ليس أمني. حاورتها: خيرة بوعمرة *شاركت كضيفة ضمن فعاليات الطبعة العشرين للصالون الدولي للكتاب، التي احتفت بفرنسا كضيف شرف للطبعة، ألا يتنافى الأمر مع مواقفك الرافضة لفرنسا؟ ليس لدي أي مشكلة مع فرنسا ثقافيا أو أدبيا، مرحبا بالثقافة الفرنسية في أي وقت، حتى أنني غيّرت قناعاتي السنة الماضية وزرت باريس، أين كنت أريد اختبار مشاعري لأن هناك شق من عائلتي في فرنسا، لم أكن أعرف الجيل الثاني من هذه العائلة، وتحت إلحاح ابن عمي "فانسن"، قبلت الدعوة التي تلقيتها في نفس الوقت من سفيرنا السابق في بيروت الدكتور الشاعر والفنان إبراهيم حافي، فذهبت و فعلا اختبرت مشاعري هناك، ولكن هذا لم يغير شيئا من إدانتي لفرنسا التي شطرت عائلتي بالشكل الذي لا يمكن إصلاحه اليوم، فعمتي اليوم تعيش في كاليفورنيا ووالدي في الجزائر، وعمي في فرنسا .. الثلاثة لا تواصل بينهم بسبب الاستعمار. *لكنك كنت ترفضين زيارة فرنسا أوحتى إيداع جواز سفرك لدى السفارة الفرنسية ؟ أحقادي ضد فرنسا ذهبت، لكن تاريخيا هناك أمورا أخرى لا يمكن تجاوزها، حين أرى ذاك الهيلمان الذي يعيش في كنفه الفرنسيين لا أستطيع إلا أن أكره فرنسا التي جعلتنا حفاة، عراة، جاهلين و غير مهذبين ..فرنسا حرمت الجزائريين من حقهم في التعليم والدخول إلى الجامعات، وأكره أيضا هؤلاء الذين يقولون بأن فرنسا درّست الجزائريين، فرنسا لم تدرسنا فرنسا درّست أتباعها.
*بمناسبة الحديث عن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا في الجزائر، أين وصل مشروع كتابة السيرة الثورية لجدّك الطبيب المجاهد "ملكمي" الذي قتلته فرنسا بطريقة بشعة؟ هي قضية وقت وفقط، لابد من التفرغ لهذا المشروع الذي اعتبره الأهم في حياتي. جمعت عددا من التسجيلات من والدي الذي هو اليوم مريض وذاكرته بدأت تضعف، وعليه فقد جاء الوقت لأبدا الكتابة، وابن عمي فانسن حمسني أكثر. اليوم لدي مشروعين، الأول جمع صور والدي الذي كان مصورا محترفا ولديه أرشيف مهم حول رؤساء الجزائر ووزرائهم وحتى مظاهر الحياة في الجزائر، والثاني كتابة سيرة وتاريخ جدي المرحوم "ملكمي "، الذي كان طبيب المجاهدين في منطقة أريس، والذي عاد إلى الجزائر بدعوة من مصطفى بن بولعيد، وقتل من قبل الجيش الفرنسي بطريقة وحشية، وأنا شخصيا راسلت عديد الجهات الرسمية في الجزائر لإطلاق اسمه على إحدى المستشفيات أوالشوارع على الأقل في باتنة، لكن قوبلت بصمت قاتل، فلا الدولة ولا أي جهة استجابت. *عدت إلى النص الشعري بمجموعتك الشعرية "منهكة بحبك يا ابن دم"، هل هي إعلان مصالحة مع الرجل الجزائري؟ هي ليست أول تجربة شعرية، بل هي أول إصدار شعري لي، فأنا بدأت بكتابة النص القصير والخاطرة و ما يشبه الشعر..فالشعر النثري يعتمد على الإيقاع الداخلي، وأنا كنت دائما متهمة حتى في نصوصي الروائية بالشاعرية، و لهذا السبب لست جديدة على الشعر، ولكن ربما المسار العكسي الذي اتخذته من الرواية إلى الشعر هو الذي لفت الانتباه، ففي العادة الناس تترك الشعر إلى الرواية، وفضيلة الفاروق قامت بالعكس، زيادة على أنني في مدة 4 سنوات لم أنشر أي كتاب، وخلال هذه السنوات أنا أكتب النصوص القصيرة و أحتفظ بها.
*كنت قد اخترت عنوان "قبلات إلى جرجرة" لكنك غيّرت العنوان، لماذا هذا التراجع عن العنوان ؟ المجموعة كانت تتضمن أزيد من 250 نص، و كانت تحمل عنوان "قبلات إلى جرجرة" فعلا، لكن تكاليف النشر حالت دون ذلك وعليه فقد قرّرنا تقليص العدد وتغيير العنوان لكي لا يفهم سياسيا أنّ كل أشعاري موجّهة إلى منطقة معينة، و كي لا يحاكم الكتاب إقليميا أو عرقيا أو قبليا.. *القصيدة الرئيسية في الكتاب مهداة إلى الحسين آيت احمد، الذي تقولين بأنك كنت تتمنين لو أنه حكم الجزائر بعد الاستقلال؟ فعلا كنت دائما أحلم بأن يتقلّد حسين آيت احمد منصب رئيس الجمهورية منذ الاستقلال، و لكن للأسف لم يحدث هذا، فأنا تبنيت منذ صغري أفكار حسين آيت احمد، وأغلب مبادئه الوطنية اتجاه الجزائر، أنا عاشقة لهذا الرجل ومن أجله عشقت جرجرة و عين الحمام، و من حقي في كتاباتي أن أغازل هذا الرجل. *تقولين بأنك دائما بين لغتين العربية والأمازيغية باعتبارك سليلة منطقة الأوراس الشاوية، كيف تقيمين اليوم واقع اللغة الأمازيغية في الجزائر؟ أعتقد بأننا في الجزائر بحاجة إلى إعادة ترتيب علاقتنا باللغة والثقافة الجزائرية، أما فيما يتعلق باللأمازيغية، فأنا أقولها بصراحة بأن التيارات الأمازيغية هي المسؤولة عن التضييق على اللغة الأمازيغية التي لازالت متأخرة وكأننا في سنوات الستينات، وأظن أنه قد حان الوقت لإعادة بناء علاقتنا بلغتنا بإعادة فهمها من جديد. *رغم ما تجرّه عليك جرأتك من مشاكل مع القراء و عديد الجهات الرسمية، إلا أنك مصرّة دائما على الانتقاد والكلام عكس أحلام مستغانمي التي تتحدث دائما بطريقة دبلوماسية تجعلها تكسب الآخر؟ لا أستطيع أن أكون ديبلوماسية مثل أحلام مستغانمي، ببساطة لأنني شاوية، أنا ابنة الجبل وعشت في منطقة "القلعة " أعلى مكان في الجبل، كل المحيط كان ثائر و دمه يغلي. تربيت على يد أساتذة زرعوا فينا حب الوطن والحماسة، وعليه فالطبع يغلب التطبع. *لماذا تزداد علاقتك سوءا بالقارئ الجزائري؟ في كل مساري الروائي كنت أكتب الرجل السيء مقابل الرجل الخيّر، لكن لا أدري لماذا القارئ الجزائري والعربي سلبي، بل حتى إعلاميا قرأت بشكل سلبي، حيث يتم التركيز على النموذج السيء و إهمال النموذج الإيجابي، مثلا في نص "اكتشاف الشهوة"، كتبت نموذج توفيق بسطانجي، الرجل الجميل الفنان الذي يحمي ابنة عمه، لم يركز معه أحد، أيضا في نص "تاء الخجل"، يركز القارئ مع الرجال السيئين لكن ينسون أن الكاتبة تكتب رسالة طويلة لحبيبها الغائب. *هل يعني هذا أنك تتهمين الإعلام بأنه أفسد علاقتك بالقارئ ؟ أنا وصلت لمرحلة كنت جدا غاضبة من الإعلام و قاطعته أيضا، حتى أنني أصبحت أرفض أن أقدّم حوارات ولا حتى مداخلات، لأن كل كلامي يحرّف أو يقرأ بشكل سلبي. نحن اليوم بحاجة إلى قراءة إيجابية للنص. الإعلام اليوم يبتعد عن القراءة الإيجابية للنصوص، و هو ما يتسبب في إبعاد القارئ عن النص، و هذا فيه كثير من الإساءة للقارئ والكاتب، حتى أصبحت الكاتبة تعامل و كأنها بنت سوق أو شارع، والكاتب أصبح مجنون أو ناقص عقل .. مثلا "اكتشاف الشهوة"، عالجت فيه موضوع الزواج المدبر والعلاقة بين المرأة والرجل، في هذه الحالة والتي تكون مفرغة تماما من العواطف، قُرأَ الكتاب بشكل غريب وكأننا في الجزائر مثاليون، وأنني اخترعت ما كتبته أو لفقته للمجتمع. شخصيا لست ضد أن أشتم لشخصي أنا، و لكن أرفض أن تسب عائلتي التي هي عائلة أطباء ثورة في منطقة الأوراس. *هل تواجهين نفس الهجوم من القارئ العربي؟ القارئ العربي عادة يقرأ ليحاكم الكاتب، وهي من إحدى سيئاته ولكن النخبة تختلف، في لبنان يقرأ الكتاب بشكل أكاديمي تفكيكي. مثلا لفت انتباهي في إحدى اللقاءات في لبنان، أن تاء التأنيث الموجودة في تاء الخجل غير موجودة في اللغة الفرنسية. وترجمت "الخجل من الأنوثة "..كما أنني ناقشت تاء الخجل مع طلبة من عديد الجامعات العالمية، على غرار شيكاغو، فليديلفيا و بيرمينهام .. *حاربت ظاهرة الاغتصاب ضمن كتاباتك، هل مازلت تدينين النظام الجزائري الذي يشرّع للاغتصاب حسب رأيك ؟ أنا ضد هذا القانون الذي يقدّم للجلاد ضحيته، ليغتصبها تحت غطاء الشرعية، وحين تغتصب المرأة تتهم بأنها السبب وكأن الرجل ملاك، واليوم وصلنا لاغتصاب الأطفال. لماذا لا يحاربون هذه الظاهرة اليوم بشكل علمي؟، لماذا تغيب التربية الجنسية عن المدارس إلى يومنا هذا ؟، من حرّم تدريس التربية الجنسية؟، كما أنني أتساءل كيف لوزير الداخلية أن ينام وهناك أطفال يتعرضون للتدمير الجسدي.المسؤولون عاجزون تماما عن تقديم أية حلول، وحين يقدم المثقف حلول يحاكم ويتهم بكل أنواع الجرائم. *هل مازلت تخافين من الشاعر الجزائري؟ نعم مازلت أخاف الشارع الجزائري، و لا أتاخر ليلا في الجزائر لأن الشارع الجزائري غير آمن، عكس الشوارع في لبنان، حيث يمكنني الخروج منتصف الليل دون أية مشاكل. تحزنني هذه المفارقات لأننا دولة غنية، وشعب لا يعرف استغلال غنى دولته. في لبنان الدولة لا توفر شيئا وغائبة تماما عن المشهد، إلا أن الشعب يبادر ليعيش بشكل أسعد، وأجمل و هو ما يثير حزني على الجزائر والجزائريين، نحن نعيش في نعيم لا نقدره، نحن ننهك دولتنا، وحين يتكلم أي واحد عن الدولة يتهم أنه مع النظام ووو.. نعم أنا مع الجيش الذي حافظ على حياتي خلال العشرية السوداء، أنا مع الجيش الذي لم يدمرن، مثلما دمرت سوريا. جيشنا كان جزء من الشعب، ويقولون لماذا ترفض فضيلة الفاروق أن تسير في خط المعارضة، أو في خط فلان أوعلان، لأنه و ببساطة لفضيلة الفاروق خطها الوطني الذي لا تحيد عنه. *تنتقدين أيضا لأنك تكتبين الطابوهات بشكل مثير، هل للأمر علاقة بالوصول إلى الضفة الأخرى، أم هي مجرد خيارات؟ لا يوجد شيء يسمى الطابو اليوم. أصبح كل ما نكتب فيه قديما و مستهلكا، لأن الأنترنت ألغت هذا المصطلح. في البدايات لم أجد نصوصا نسوية في الجزائر، فيما كانت تعج الساحة بكتاب رجال كتبوا فيما يسمى بالطابوهات، و لم يتلقو أية انتقادات، فيما يجدون اليوم مشكلا في كتابة المرأة عن الجسد، مع أن مشكل المرأة هو الجسد الذي لا يفهمه الآخر، و يتعامل مع المرأة على أنها جسدا لا غير. *أنت دائما تتكلمين عن تهميش المرأة المبدعة وخاصة المعربة، في رأيك من أين جاءت هذه القيود من الكتاب الرجال أم المجتمع؟ هي محارِبة، ولكنها محارَبة في نفس الوقت. المرأة الجزائرية وقفت لتغيير القوانين، وأنا من هذا المنبر أحيي المرأة الجزائرية والنسوة اللواتي مهدنّ الطريق لنا، ولا يجب أن نتنكر لهن ولفضلهن من أول كاتبة كتبت كلمة صغيرة على غرار زليخاء السعودي، مبروكة بوساحة، وزهور ونيسي، زليخاء بن اسماعيل و حمامة العماري و علياء الأديب .. جيل نحن اليوم استمرار لهن لا غير . *أصبح من الملاحظ جليا هدوء لهجة فضيلة الفاروق بكثير في الكتابة والتصريحات، هل للأمر علاقة بإقامتك في بيروت؟ أكيد بيروت هادئة و ناعمة، و مختلفة تماما عن الأجواء الصاخبة في الجزائر، لكن أريد أن أشير هنا بأن اسمي قد سبقني إلى لبنان، فأنا سافرت إلى هناك و أنا معروفة، فأنا صناعة جزائرية، وصدقا لبنان رغم هدوءها تصيبني كثيرا بحالة انقطاع الشهية في الكتابة، و هو ما يضطرني في كل مرة إلى القدوم إلى الجزائر التي اعتبرها بطريتي الأولى و مصدر إلهامي. خيرة بوعمرة