لا يمكن أن تحل ذكرى وفاة أستاذي أبو القاسم سعد الله الموافقة ليوم 14ديسمبر2013 دون تخصيصي هذا العمود له كوفاء مني لأستاذ كبير تعلمت منه الكثير، فليس من الوفاء لسعد الله اجترار أفكاره وطروحاته، لأنه مناقض لما كان يدعو إليه من تجديد وتعميق وتطوير لكل الطروحات ونقدها وتدارك نقائصها، يكمن الوفاء له في الاستلهام من أخلاقه الرفيعة، فكان يجسد عمليا أخلاق العالم، خاصة في تواضعه، كان يفضل طلبته ومدرجات الجامعات على تولى المناصب التي كان يترفع عليها مهما كان علوها، ومنها مناصب الوزارة المعروضة عليه عدة مرات، مما عرضه لمعاناة، لأنها قرأت كمواقف سياسية منه، فمن الوفاء له الاستلهام من انضباطه وأساليب عمله وصرامته الأكاديمية، فلا يتساهل ولا يتسامح في ذلك على الإطلاق، كان ينصحنا بكتابة كل ما يتبادر إلى ذهننا من أفكار ثم تنظيمها فيما بعد، وقد أتبعت نصيحته هذه بحذافيرها، فكم كان يحب القلم السيال؟، كان متفتحا، ويتقبل الرأي الآخر، ويترك لطلبته حرية الطرح مكتفيا فقط بتوجيههم منهجيا، فعندما أشرف علي في رسالة حول الفكر القومي العربي، شجعني على نقد هذا الفكر بعد ما اكتشفت خطورته على وحدة أقطارنا المغاربية بعد غوصي في مختلف توجهاته، لكنه اشترط علي فقط الشجاعة والأكاديمية في الدفاع عن طروحاتي، بالرغم من تعاطفه النسبي مع تلك الأفكار قبل تخليه نهائيا عنها فيما بعد، ودفع ثمن معاداته لها في منعه من دخول سوريا التي يسيطر عليها البعثيون. ومن الوفاء لسعدالله مواصلة طريقه في بعث تاريخ الأمة الجزائرية المطموس، والممتد على آلاف السنين، والذي يحتاج إلى عدة باحثين، فركز سعدالله على جانبه الثقافي لشعوره بأن هناك فراغا في هذا المجال ولقناعته بأهمية الثقافة في بناء المجتمعات. لم يكن لتواضع سعدالله حدود، فكان يعتبر عمله الكبير"تاريخ الجزائر الثقافي" مجرد باب فتحه للغوص أكثر في ثقافتنا، ويعترف أنه ركز أكثر على جانبها المكتوب بالعربية، لكنه يرى أن ثقافة أمتنا أشمل من ذلك، فهناك ثقافة شفوية وشعبية تمثل روح الأمم -حسب الألماني هردر-، وهناك أيضا ثقافة معبر عنها بلغات أجنبية كاللاتينية في القديم والفرنسية اليوم، لكنها تحمل روحا جزائرية، أفلم يقل مولود فرعون "أكتب بالفرنسية لأقول لفرنسا الاستعمارية بأنني جزائري"؟. ودعا سعد الله إلى إحياء تراثنا الثقافي المعبر عنه بالأمازيغية، ولاحظ تقصيرا تجاه هذا الجزء من ثقافتنا الجزائرية، وذلك على عكس ما يشاع عنه، وسعى بنفسه إلى إحياء هذا التراث بداية بمخطوط "الحوض" لمحمد بن علي بن إبراهيم التلمساني في الفقه، المكتوب بالأمازيغية، ولام نفسه لإهمال هذا الجانب في السابق، فكان يقول عن مولود قاسم المبجل للبعد التاريخي الأمازيغي ورموزه لدرجة إطلاق اسم البطل يوغرطة على ابنه البكر "كم كان سي مولود محقا بتطلعه واستلهامه من عمق تاريخ الجزائر ورموزه؟". [email protected]