طرح بعض الباحثين مشكلة انحراف أغلب الثورات عن الكثير من مبادئها وأهدافها بعد سنوات من انتصارها، ولاحظ آخرون وقوع نفس الأمر مع الأديان السماوية، مما جعل علي شريعتي يقول بأن كل دين سماوي، يستولي عليه المستبدون والاستغلاليون بعد سنوات من رحيل نبيه، ثم يستغلونه لخدمة مصالحهم، وقد ذهبنا في نفس المنحى في كتابنا "رؤساء الجزائر في ميزان التاريخ"، فعقدنا مقارنة بين مساري الدعوة الإسلامية والثورة الجزائرية، لنستخرج أسباب الانحرافات، فتوصلنا إلى وجود تشابه في الجوهر بين أزمة صيف1962 والفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام، وما أنجر عنها من استيلاء الأمويين على الحكم وتحويلهم دولة الإسلام إلى ملك عضوض. توسعت بحوثنا فيما بعد لمعرفة ماوقع في دول مغاربية، فاكتشفنا تنفيذ آجندات متشابهة في هذه الدول، لكن بأشكال مختلفة، وبأن هناك تشابها بين ماوقع في الجزائر بعد1962 وما وقع في هذه الدول بعد استرجاع استقلالها، فالبحث في ذلك، لايعني أننا من دعاة سجن شعوبنا في الماضي، بل ندعو لتجاوزه وتوظيف التاريخ لفهم الحاضر بهدف بناء المستقبل، ففي التاريخ مفاتيح لفهم وقراءة الحاضر وتحولاته قراءة صحيحة، فنشبه دائما المؤرخ الحقيقي ومعه رجل الدولة بسائق السيارة، الذي ينظر في المرآة العاكسة، ليرى ما خلفه، كي يتقدم إلى الأمام بشكل سليم. عرف المغرب مثلا كفاحا مسلحا ضد الاستعمار بقيادة جيش التحرير المغربي، فاضطرت فرنسا إلى التسليم باستقلاله المشروط في 1956، خاصة بعد اندلاع الثورة الجزائرية، ثم محاولة إنشاء جيش تحرير مغاربي واحد لمواجهة الاستعمار، لكن اشترطت فرنسا تفكيك جيش التحرير المغربي، الذي كان يكافح ضدها، فأنشأت للأسرة الحاكمة "الجيش الملكي المغربي" الذي سيطر عليه كلية ضباط كانوا يعملون في الجيش الفرنسي، كما أعطت لمدينة فاس النفوذ السياسي والاقتصادي والإداري على حساب المناطق التي ضحت أكثر في مواجهة الاستعمار، فنفذ الجيش الملكي بإحكام مهمة تفكيك جيش التحرير المغربي، خاصة في أهم معقل له، وهو الريف المغربي الذي ينحدر منه البطل عبدالكريم الخطابي قائد ثورة الريف في العشرينيات. ونفذت هذه المهمة بعد استفزازات وافتعال أحداث في منطقة الريف في1959، أدت إلى القيام بمجزرة، يندى لها الجبين بقيادة هؤلاء الضباط المنحدرين من الجيش الفرنسي. يشبه ماوقع في المغرب إلى حد كبير ما وقع في جزائرالستينيات، فقد صفي وأبعد أيضا في الجزائر أغلب قيادات وضباط جيش التحرير الوطني بداية بتسريح الكثير من مجاهدي الداخل في 1962، والذين كانوا في مقارعة الجيش الاستعماري، ثم باستفزاز منطقة القبائل في1963 بطريقة مشابهة لاستفزاز الريف المغربي، ثم افتعال قضية شعباني في1964 التي انتهت بإعدامه، ليكتمل المشهد باستفزاز العقيد الطاهر الزبيري ودفعه إلى محاولة انقلابية انتحارية في1967، والتي أنجر عنها أيضا إبعاد الكثير من ضباط جيش التحرير، خاصة المنحدرين من الأوراس.