تعددت العمليات الإرهابية في السنوات الأخيرة على ضفتي البحر المتوسط، آخرها عملية نيس في فرنسا، وكلما وقعت عملية إرهابية، تجدد النقاش حول الأسباب والانعكاسات، وأعاد البعض فكرة "الأمن المتوسطي، ففي الحقيقة عرف البحر المتوسط عدة حروب عبر تاريخه المعاصر، ومنها البلقان التي كانت وراء اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي عادت بحروبها العرقية والدينية في التسعينيات. وتعد القضية الفلسطينية من أكبر مشاكل حوض المتوسط، وهي أحد أسباب التطرف بسبب شعور المسلمين بالظلم من جراء انحياز قوى غربية للهمجية الصهيونية ضد الفلسطينيين، ويعد الحل العادل لهذه القضية عاملا رئيسيا لتجفيف التطرف الذي تغذيه أيضا مواقف مسيئة للإسلام، وكأن قوى خفية تدفع المسلمين عمدا للتطرف مستعينة بالبافلوفية المبنية على الفعل ورد الفعل العاطفي المدمر، وذلك كله تنفيذا لإستراتيجيات دولية كبرى. كما انتشرت الفوضى في بعض دول جنوب المتوسط نتيجة لما يسمى ب"الربيع العربي"، مما سمح بتنامي الجماعات الإرهابية فيها تنفيذا لمشروع شرق أوسطي يستهدف إعادة تشكيل خريطة منطقتنا كلها، ويتغذى ذلك كله بصراع بين قوى إقليمية من درجة ثانية بشكل مهدد للأمن المتوسطي، وهي "إسرائيل" وتركيا والسعودية وإيران، رغم أن هاتين الأخيرتين ليستا من البحر المتوسط. لكن أكبر تهديد مستقبلي هو إمكانية اندلاع حرب حضارية في حوض المتوسط طبقا لنظرية هنتغتون، إذا لم يتم إحداث ثورة فكرية وثقافية للقضاء على روح الانغلاق وتحييد المتطرفين في ضفتي المتوسط، فهذا الحوض يمثل حدود التماس بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وكذلك بين الغرب والإسلام، فهو بقدر ما كان مركز تثاقف وتبادل تجاري عبر التاريخ بقدر ماكان أيضا مركز صراعات دينية وحضارية وثقافية كالحروب الصليبية، والصراع العثماني-الأوروبي، ثم استعمار دول شمال المتوسط لجنوبه، وخلف هذا كله أحقاد تاريخية مؤثرة إلى حد اليوم، وهي من العوامل الأساسية المغذية للتطرف في ضفتي المتوسط، مما يتطلب معالجتها في العمق وفي الجذور بإعادة النظر في المناهج التعليمية في كلتا الضفتين، وكذلك بعمل جاد بناء للسلم في مجالات الفكر والثقافة والإعلام، وخاصة في المجال التاريخي والديني، ومنها ضرورة الاعتراف بجرائم الاستعمار في بلدان جنوب المتوسط كالجزائر. لكن ما يخشى هو سعي الجماعات الإرهابية إلى جر المهاجرين المسلمين في أوروبا إلى الصراع بينها والدول الغربية بدعوى مواجهة الغرب، مما سيقوي المتطرفين في كلتا الضفتين، ويسهل وصول متطرفي الغرب إلى السلطة، فيشعلون حربا ضد المسلمين هناك كما فعلت النازية مع اليهود، وإن وصل المتطرفون إلى السلطة في الغرب وفي بعض دولنا، فإن حربا حضارية دموية ستشتعل في المتوسط، لتتوسع عالميا، ولا يستبعد أن تكون الجماعات الإرهابية مجرد ذريعة للحروب الاستباقية التي نظر لها هننتغتون قبل بوش، ثم إعادة استعمار بلداننا الضعيفة بأشكال وأساليب أخرى لم تفصح بعد عن طبيعتها. [email protected]