بقلم: الطيب توهامي سيناريست، مخرج، ومنتج سمعي بصري حتى الساعة هي مجرد خطابات بحاجة للتجسيد على أرض الواقع، فعندما يتحدث الوزير الأول عبد المجيد تبون عن إنشاء مدينة إنتاج إعلامي بسواعد الدولة والقطاع الخاص، يتبادر إلى ذهننا متى؟ وأين؟ وإذا لم يقم الوزير الأول أو وزير الثقافة بالرد على هذين السؤالين في أقرب الآجال، لا يمكننا تصنيف تلك التصريحات إلا في خانة الإنشاء، والوعود التي يمر عليها الوقت فتنسى. بناء مدينة للإنتاج الإعلامي ليست هي الحل بالتأكيد لإنجاز أعمال درامية أو سينمائية في المستوى، لكنها هي الخطوة الأولى لإقامة صناعة سمعية بصرية حقيقية، فالبنية التحتية والعتاد التقني المرافق لها تسهل على المنتجين، وتوفر لهم الوقت في البحث عن الديكورات والأكسيسوارات والملابس المناسبة للعمل الدرامي أو السينمائي الذي ينوون إنتاجه. وجود الاستديوهات والبلاطوهات المناسبة للتمثيل، مع تزويدها بالعتاد اللازم، يخلق ديناميكية وتطورا في شعبة الصناعة السمعية البصرية والسينمائية، فمنذ حل مركز السينما والمؤسسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري في التسعينات، تحول الإنتاج إلى ارتجال و"بريكولاج" على أكثر من صعيد.
بناء مدينة للإنتاج الإعلامي والسينمائي مشروع أعلن عنه أكثر من وزير قبل الآن، واختيرت مدينة بوسعادة كأفضل المواقع لتشييد هذا الصرح الثقافي العملاق، نظرا لتاريخ المنطقة الحافل بالإنتاجات السينمائية منذ عشرينات القرن الماضي. بوسعادة، لو توفرت الإرادة السياسية، لتحولت إلى أكبر مصنع للإنتاج الإعلامي في شمال إفريقيا كلها، لعراقتها التاريخية ولسمعتها ومكانتها الراقية لدى كبار المنتجين وصناع السينما العالميين. هي معشوقة مخرجي هوليود الكبار، فمثلا صور أنزو بيري فيلم الووسترن الشهير "ثلاث بنادق ضد القيصر" سنة 1964، مثلما اختارها المخرج الفرنسي الشهير فيليب فوكون لتصوير فيلمه "الخيانة" سنة 1984. المخرج العالمي الراحل مصطفى العقاد أغرم بالديكورات الطبيعية لمدينة بوسعادة، وتمنى لو تمكن من تصوير بعض مشاهد فيلم الرسالة هناك، غير أن ارتباطه مع ليبيا كمصدر للتمويل حال دون ذلك. تاريخ عريق لبوسعادة مع السينما الجزائرية كذلك، فوقائع سنين الجمر صوره حامينة صاحب السعفة الذهبية هناك، وكذا عطلة المفتش طاهر، و فيلم الطاكسي المخفي، وغيرها من الأفلام. اختيار هذه المنطقة لا يتعلق بسحر ديكوراتها الطبيعية، بل يكاد يجمع المخرجون الذين اشتغلوا هناك على الإضاءة الطبيعية التي تمتاز بها، والتي تسمح بالتصوير لمدة طويلة. وهي ميزة جد مهمة في التصوير الخارجي، تسمح للمخرج والمنتج بربح الوقت في التصوير، الأمر الذي يقلص من التكلفة اليومية للإنتاج. ورغم كل تلك الميزات والمؤهلات الجاذبة للاستثمار، ظلت بوسعادة تنتظر وعود الساسة دون جدوى. من المؤسف أن تتحول مدينة ورزازات في المغرب إلى قبلة لتصوير الأفلان الهوليودية الضخمة، كما تحولت استوديوهات طارق بن عمار في تونس إلى منصات مهمة للإنتاج السمعي والبصري والسينمائي، وتبقى بوسعادة مجرد أضغاث أحلام. وعندما نتكلم عن هذه المدن السينمائية، فنحن نتكلم عن موارد مهمة بالعملة الصعبة، كان بإمكان الدولة الجزائرية الاستفادة منها. الأمل يظل قائما، في انتظار تشييد تلك المدينة التي سيستفيد منها المنتج المحلي قبل الأجنبي. الأمل في توفير مناخ عام لتطوير حلقات سلسلة الصناعة السينمائية في الجزائر، وأولى الحلقات هي مدينة الإنتاج، تليها استوديوهات ما بعد الإنتاج المختصة في الميكساج والإتالوناج والتركيب، انتهاء بحلقة التسويق والمتمثلة في دور السينما وإعادة بعثها من جديد. الصناعة السينمائية والدرامية عمل متكامل، يحتاج إلى الاستثمار في أكثر من قطاع، فمن العار اليوم أن يلجأ المنتجون إلى تحميض أفلامهم في مصر وإيطاليا، وقد كنا في الثمانينات نمتلك واحدا من أهم مخابر التحميض في العالم العربي. ومن العار أن تدبلج بعض القنوات الخاصة مسلسلاتها التركية في مصر، ومن العار أن يعالج المخرجون الصوت والصورة في تونس مثلا. لكي نشاهد أعمالا درامية في المستوى، لابد في البداية من التأسيس لصناعة سينمائية وسمعية بصرية راقية تساير التطور التكنولوجي، وقد سررنا منذ شهور بتدشين المنتج بلقاسم حجاج لاستوديو مابعد الإنتاج، رغم بساطته، مقارنة بإمكانات الدولة الضخمة. هي بارقة أمل بحاجة إلى إرادة استثمارية من الدولة ومن الخواص، نحن بأمس الحاجة إليها اليوم.