تداعيات عبد العزيز بوباكير محمود درويش عاشق فلسطين وعاشق الجزائر، التي قال عنها "فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة"، وتمنى أن يكون بائع خبر بسيط فيها. وفي الجزائر اتفق الزعماء الفلسطينيون، ياسر عرفات جورج حبش ونايف حواتمة رغم عمق خلافاتهم، أن يكون درويش هو كاتب ميلاد ميثاق إعلان دولة فلسطين عام 1988، وفي أحضان الجزائر جمع درويش الشتات السياسي الفلسطيني على كلمة واحدة، وضمّ الجزائريين على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم في لغة واحدة، وفي الجزائر صدح درويش بأجمل قصائده "مديح الظل العالي" و"سجّل أنا عربي". وفي الجزائر فتح درويش قلبه وذراعه "لأوراسه" ولجزائره: افتح ذراعك للجزائر واحضن مسدس كل ثائر! المدفع الرشاش في الأحضان يحفظ .. في المحاجر خبئه في العينين .. في الشفتين.. في قلب الجزائر وانصبه تمثالاً.. إلها أمطر الدنيا بشائر! فسلاحنا مطر السماء ، وليس موتاً أو مخاطر فلينبت الزيتون ، وليزرع زهور الحب في قلب الحرائر وليخمر الخبز المملّح بالكرامة والمفاخر وليحرس الشطآن من ريح يحركها مغامر! يا طائر الأشواق ضعني قشّة عند البيادر أو عشبة منسية في عرق دالية تسامر حتى أغنى الريح، والهضبات والجبل المفاخر: أوراس يا أولمبنا العربي .. يا رب المآثر! انّا صنعنا الأنبياء على سفوحك .. والمصائر انّا صنعناها، وما أوحت بها أوهام ساحر أو شاعر نسيّ التراب.. فراح يستجدي الخواطر أوراس ! يا خبزي وديني .. يا عبادة كل ثائر! افتح ذراعك للجزائر في يوم أعراس الجزائر — نسيت كم مرة التقيت درويش، لكن ما لن أنساه هو أن لقاءاتنا كانت دائما فسحة أمل ونافذة مشرّعة على الحلم. كانت آخر زيارة له إلى الجزائر سنة 2005 قبل وفاته بثلاث سنوات، وأجملها سنة 1987 التي صادفت وجود ثلاث كتّاب روس في الجزائر ألحّوا على لقاء درويش، وقد عرفوه في سنة 1972، حين كان طالبا في موسكو. التقوا في فندق "الأليتي" بحضور جماعة من نُظرائهم الجزائريين. كانوا هم المتحاورون، وكنت أنا الجسر الناقل لمشاعرهم وتساؤلاتهم. تألق درويش في تلك الجلسة بلغته الفخمة ونبراته المدهشة، وحلّق عاليا في السماء بأحاسيسه الرهيفة وأحلامه المستحيلة، وتجاوب معه الروس بنفس الوتيرة والزخم. تذكر درويش هيامه بالساحة الحمراء، واندهاشه من الروح الروسية الحزينة، وولعه ببوشكين وماياكوفسكي، وقال إنه في روسيا لم يختر أحلامه، وصار هناك ما أراد، صار طائرا يُحلّق في سماء وطن مفجوع، وهناك ولد كما تولد الناس في فلسطين.. له والدة وبيت كثير النوافذ.. وله إخوة.. وأصدقاء.. وسجن بنافذة باردة.. وله موجة خطفتها النوارس.. وله مشهده الخاص.. وله قمر في أقاصي الكلام، ورزق الطيور، وزيتونة خالدة.
* تحدث درويش عن الأرض والغربة والضياع… حلّق درويش والروس عاليا في سماء الشعر وعرش الجمال، وتركوا النثر وهوامشه للكتّاب الجزائريين. ودام اللقاء إلى ساعة متأخرة من الليل. في نهاية اللقاء قدّم اتحاد الكتّاب هدايا لضيوفه، وكان من نصيب درويش سينية نحاسية قسنطينية كبيرة غير مُتقنة الصنع، تركها درويش في ركن القاعة، فلمّا نبّهته، ونحن خارجون، بالقول :"يا محمود لقد نسيت الهدية"، أجابني متأسفا:"سِبها يا عزيز سِبها، وهل لي وطن وبيت أضع فيهما هذه السينية؟ تمنيت أن تكون الهدية قلما أكتب به قصيدة عن الجزائر! في اليوم الموالي جلس درويش في مطعم بالأوراسي ودعا بأناقته المعهودة وطبعه الارستقراطي الخادم:" غارسون Garçon"، فجاءه الخادم مهتاجا: "غارسون متاع يمّاك…" فبُهت درويش وصمت، وبعد دقائق ناداه من جديد:" شيفChef عندكم بواسون؟" ردّ عليه الخادم:"تأكل ستيك بالسيف عليك!"