بالأمس رحل المفكر ورجل السياسة السوداني حسن الترابي، وخلال حياته التي امتدت على أكثر من ثمانية عقود، أثار الترابي كثيرا من الجدل سواء من خلال أفكاره الجريئة التي تناولت الإسلام، أو من خلال نشاطه السياسي الذي جعل منه من الشخصيات التي أثرت بشكل حاسم في مسار السودان المعاصر بكل أزماته المعقدة. التأمل في مسار الترابي يثير سؤالا مهما حول حصاد حياته، فما هو الأولى بالتقييم اليوم، مسار الرجل العلمي، وهو المتخرج من جامعتين عريقتين، أكسفورد والسوربون، وإنتاجه الفكري، أم مساره السياسي ؟ قد يختلف الناس حول أفكار الترابي الذي يعتبر أحد أكبر المنظرين للإسلام السياسي، وقد ثار هذا الخلاف بالفعل حول اجتهاداته الأخيرة، لكن المسألة لا تتعلق بالحكم على مدى صحة ما جاء به، بل تتعلق بتبين هذا الخيط الرفيع الذي يفصل بين الفكر والممارسة، وقد يكون من الإنصاف الحكم على التجربة بدل الاستماتة في الدفاع عن صحة النظريات، أو سلامة النوايا والمقاصد. تجربة الترابي في الحكم وضعته على المحك، فلم يكن انقلابه على حلفائه، أو انقلاب هؤلاء عليه، إلا تجسيدا لتلك التجاذبات التي تطبع علاقات الرفاق في أي حركة سياسية، لكن المثير للانتباه هو أن تجربة الإسلاميين في السودان، تكاد تكون نموذجا يتكرر في كل البلاد العربية، فقد اختار الرجل طريق الانقلاب من أجل فرض نظام إسلامي من فوق، وبدا موقفه من الديمقراطية استغلاليا، وكان انقلاب حكام السودان عليه، وهو الذي استعملهم من أجل الانقلاب على حكومات سابقة، يلخص هذا الصراع على السلطة الذي لم تفلح تلك الكتب الضخمة التي ألفها الترابي في التغطية عليه، أو في منحه صفة المشروع السياسي أو الحضاري كما كان يقول هو. انتهى الأمر بالسودان إلى حكم عسكري ببذلة مدنية، وإلى انفصال الجنوب، وإلى حركات انفصالية في دارفور، وعزلة دولية، فضلا عن فشل اقتصادي مزمن، وفي كل تلك الأزمات كان الترابي حاضرا، محرضا تارة، وشريكا تارة أخرى، وبقي متقلبا بين السجن والإقامة الجبرية، وبعض فترات رفعته إلى أعلى درجات التأثير في السلطة أو الإمساك بخيوطها. تستحق كتب الترابي أن تقرأ، غير أن مساره السياسي، وحصاد تجربة قد يكون أكثر أهمية لمن أراد أن يفهم الإسلام السياسي، خاصة وأن التجارب اللاحقة في الجزائر وتونس ومصر تقدم إضاءات مهمة لتوضيح الصورة أكثر.