طَرحَ أحد الجامعيين المرموقين في جامعة حمَّة الأخضر بالواد، وهو الأستاذ الجامعي والباحث الأكاديمي في التاريخ، الدكتور رضوان شافو، موضوعا في غاية الأهمية، وقد يبدو للبعض ساذجا أو أنه مجرد صيحة في واد، جاءت من ساكن الواد(1) ابن "المقارين"(2) . الفكرة بسيطة ترمي إلى إلقاء "محاضرة في كل مقهى" من قبل أساتذة ومهتمين بالتاريخ ومثقفين، خصوصا في تاريخ الجزائر، لجعل الناس الذين يرتادون المقاهي عموما والشباب خصوصا، يعرفون تاريخ بلدهم مما يعزز فيهم حب الوطن ويُحصِّن مناعة وطنيتهم. و الدكتور الشاب شافو لمن لا يعرفه من مواليد 1980 يُحسن ثلاث لغات إلى جانب اللغة العربية، وهو متخصص في كل ما يتعلق بتاريخ الجزائر وبالتاريخ الحديث والمعاصر وتاريخ العالم العربي وإفريقيا و أوروبا، أنجز العديد من الدراسات والبحوث و أصدر عددا من الكتب، من بينها كتابه "الجنوب الشرقي الجزائري خلال العهد الاستعماري "، و له تحت الطبع عدة مؤلفات من بينها "قراءة في تاريخ إفريقيا المعاصر"، تجمعني به صداقة عبر صفحة "الفيسبوك"، وقد التقيت به أثناء المحاضرة التي ألقيتها العام الماضي، بجامعة الواد. والواقع أن الفكرة بحد ذاتها جيدة، ألم تكن "المرحومة" مقهى اللوتس، بقلب العاصمة بالقرب من جامعة الجزائر في الستينات وحتى منتصف الثمانينات، عبارة عن نادٍ ثقافي مميز كان يجمع زبدة المثقفين الجزائريين والمثقفين والجامعيين القادمين من المشرق العربي والمغرب وتونس. كانت تلك المقهى التي أنهت وجودها رياحُ أكتوبر 1988 واقتصاد السوق ثم سنوات الإرهاب الأعمى، عبارةً عن نادٍ فكري ثقافي تدور فيه حوارات ونقاشات راقية تتناول أمَّهات القضايا الوطنية والإقليمية والدولية في مختلف أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية، بأسلوب تتمايز فيه وتختلف الطروحات والأفكار من الوطني إلى الإسلامي إلى الاشتراكي واليساري وإلى الشيوعي. و رغم طغيان الفكر اليساري في تلك الفترة، فإن ذلك الفكر لم يستطع لا ترويض الفكر الإسلامي ولاَ غَلبةَ الفكر القومي الذي كان طاغيا هو الآخر في طروحات البعض، ولا كان حائلا دون الفكر الوطني الذي كان يقف حَكمًا بين تلك التيارات والطروحات. كان الراحلان الطاهر بن عائشة والطاهر وطار يتصدران الفكر اليساري، يدعمهما في ذلك يساريون من تونس والمغرب والمشرق، من بينهم التونسي الأخضر عفيف، وكان الراحل محمد سعيدي، القادم من موسكو، حيث درس الأدب الروسي هناك، يحاول أن يوفق بين اليسار في شكله المعتدل وبين الفكر الوطني، بينما كان الجنيدي خليفة والبرناوي وخمار وغيرهم إلى جانب شبانٍ آخرين من أمثال محمد عباس يتصدرون واجهة الفكر الوطني في نقاشات كانت جلها تحتد وترتفع أحيانا إلى درجة الجدل العقيم. وكان التيار الإسلامي يتمحور خاصة في الراحل سليم كلالشة، الذي كان يحمل الفكر الذي يدور داخل الجامعة المركزية، إذ كان من ممثليه الشيخ أحمد حماني، رحمه الله، و هو أحد أقطاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إلى جانب مجموعة من الشبان والمتحمسين للفكر الإسلامي، من أمثال محفوظ نحناح وبالأرنب وكيموش وبوكروح، وكانت أفكار هؤلاء وأولئك لا تلتقي في خط إسلامي واحد، فهناك مَن كان يحمل فكرَ جمعية العلماء المسلمين بخطها المعتدل، وهناك مَن تأثَّر بفكر الإخوان المسلمين في مصر، وهناك مَن كان يميل أو يتأرجح هنا أو هناك، أو هو يميل إلى أفكار مالك بن نبي الذي حوَّل بيتَهُ إلى ناد للنقاش في مسائل فكرية ذات صبغة إسلامية، مثل نور الدين بوكروح، ورشيد بن عيسى. ولم تكن اللوتيس وحدها هي التي يلتقي فيها المثقفون والفنانون والشعراء، فهناك مقهى "النجمة" قرب ساحة الأمير عبد القادر، والتي كان يلتقي فيها بعض المثقفين والفنانين، وهناك مقهى "طانطانفيل" المحاذية للمسرح، والتي كانت وما تزال الوجهة الدائمة لرجال المسرح، وكانت مقهى "التلمساني" بساحة الشهداء، مقصدا للفنانين خصوصا. ومن بين المأثورات والنكت التي كانت تُروى عن هذه المقهى، أنها كانت تقدم قهوة متميزة لروادها، بحيث أنه إذا ما طلب أحدهم قهوة ثانية، فإن النادل أو صاحب المقهى يخاطبُ الزبون بقوله بابتسامة على اللهجة العاصمية: " يا الخو روحْ تاكلْ القهوة في قهوة أخرى، هنا يشربو الناس القهوة، ما ياكلوش القهوة"!. ومعنى ذلك أن عملية شرب القهوة هي في حد ذاتها عمليةُ تذوق فنية راقية، وليست مجرد شرب للقهوة.. وكان محبُّو أغاني أم كلثوم لا ينقطعون عن المقهى الذي يحمل اسم هذه المطربة المصرية بباب الواد. والأكيد أننا لو عُدنا إلى تاريخ الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر، فإننا نجد أن العديد من المقاهي الجزائرية في مختلف أنحاء الوطن كانت تعتبر مشتلةً للفكر الوطني والفكر الثوري. وفي مصر تبرز العديد من المقاهي كحاملة للواء الفكر والثقافة والوطنية، من بينها مقهى "الفيشاوي" التي تأسست عام 1760 بالقاهرة، حيث كان يؤمُّها كبار المثقفين من كتاب وشعراء وفنانين وزعماء ووطنيين ورجال علم ودين، من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. كما رُوي أنَّ مِن بين الذين عرفوا تلك المقهى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، إلى جانب عدد من المثقفين الكبار من شتى بقاع العام، من بينهم فيلسوف الوجودية، الأديب الفرنسي الراحل جان بول سارتر. أما مقهى "الحرافيش"، والعبارةُ تعني باللهجة المصرية الناس المُعْدَمِين أو الفقراء أو الغاشي باللهجة الجزائرية، فقد كانت في البداية مقصدًا لعدد من الكتاب، من بينهم نجيب محفوظ التي تحمل إحدى رواياته عنوان هذه المقهى الحرافيش ، وهذا قبل أن يتحول هذا الكاتب إلى مقهاه المفضل مقهى ريش الذي تأسس عام 1808، وكان الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ الحائزُ على جائزة نوبل للآداب قبل محاولة اغتياله عام 1995 يُنظِّم ندوته الفكرية كل أسبوع بهذا المقهى، حيث يجتمع إليه عدد من الكتاب والصحفيين والفنانين في حوارات تتناول مختلف المسائل الفكرية والثقافية وحتى السياسية. وإذا ما عدت للفكرة التي أطلقها الدكتور شافو بشأن تحويل مقاهينا إلى أندية للتاريخ، فإنني إذ أحبذ الفكرة وأُحيي صاحبَها على ذلك، فإنَّ أمَلي إذا وَجدتْ هذه الفكرة القبول والاستحسان ألا تقتصر على التاريخ فقط، وأن تتنوع و تتعدد ليكونَ هناك مقهىً للتاريخ، و مقهىً للشعر ومقهىً للرواية ومقهىً للفنِ المسرحي ومقهىً للغناء، وهذا كي يجد كلُ مثقف وكل باحث عن أي لون من الثقافة والفن والإبداع والتاريخ والعلم رغبته وهوايته المفضلة. ومن شأن هذه الفكرة أن تجعل من المقاهي نواديَ راقية تقدم خدمة للفكر وتعمل على ترقية الذوق العام للمواطن وتضيف خدمة جليلة للبلد في المجال الثقافي بعد أن عجزت دُورُ الثقافة للأسف عن أداء دورها وأصبحت في عمومها عبارة عن جدران صماء لا تتنفس الثقافة، بل مجرد حيطان وكراسي شبه مهجورة إلا من قبل عدد محدود من المثقفين أو بعض الطفيليين و المتطفلين على الثقافة. كما أن هذه الفكرة بإمكانها أن تجعل مقاهينا مكانا جميلا للإشعاع الثقافي بدلا من أن تبقى أمكنة للغوغاء والضجيج، خصوصا في ليالي رمضان مع من يلعبون "الدامة" و"الدومينو"، وربما في حالات نادرة يتلهى البعض الآخر بلعبةً فكرية راقية هي الشطرنج. 1/ الواد هنا يقصد بها واد سوف. 2/ المقارين بلدية تقع بولاية ورقلة. محمد بوعزارة