قد يصدف أن يواجه أي كيان ، شركة كان او مؤسسة ، هيئة حكومية أو غير حكومية ،شخصية مشهورة أو حتى دولة ، أزمات أو تسريبات أو فضائح ، تعصف بهياكلها ،أوتضرّ بسمعتها وصورتها، إما لهولها أو لتعارضها مع الاخلاق العامة والقوانين ،أو للأضرار الناجمة عنها ،أوغيرها من الأسباب ، وقد جرت العادة أن تتولى إدارات العلاقات العامة المسؤولة في كل كيان، عن تسيير هذه الازمات ،وفق منهج علمي واداري دقيق ،باعتبارها الإدارة المسؤولة عن بناء السمعة وترميمها من الشوائب، مواجهة الاشاعات وتسيير الازمات خاصة إعلاميا ،كما تتولى إدارة الأزمة وفق ما تنص عليه أدبيات إدارة الازمات ، لكن المتتبع لحلول وباء الكوليرا بالجزائر مؤخرا ،يقف زيادة على الترهل الموجود الذي سمح بظهور مرض من أمراض العصور الوسطى ،يقف بكل أسف على التخبط الذي ميز التعامل مع الازمة من تصريحات متضاربة ،وتصريحات عنترية ،وبطولات ورقية ،وفرقعات صوتية ،تستغبي العقول ،وتنافي المنطق العلمي ،كل ذلك مع تضارب في الاخبار والأرقام والإحصاءات ،وتعدد الجهات التي تصدر منها التصاريح ،مما يدلل على غياب تام لأدنى ثقافة ادارية ،للتعامل مع ازمة أمست بسمعة البلد برمته ،وهزت ثقة من يتعاملون معه ،حتى تحول الحدث الى مثار للسخرية والتهكم من شعوب أخرى ،مستغربة تماما مثلنا، وجود مثل هذه الامراض في بلد ،يصدر أطباء وممرضين وكفاءات علمية أكثر من أي شيء آخر (خارج قطاع المحروقات طبعا). "ليست كل مشكلة أزمة، وان كان لكل أزمة مشكلة " يعود ظهور مفهوم إدارة الأزمات ، الى ستينيات القرن الماضي ، بعد أزمة الصواريخ الكوبية أو أزمة الكاريبي كما تسمى في روسيا ، وهي أزمة كادت أن تتسببفي اندلاع حرب عالمية ثالثة ، ولكنها انتهت بالحوار رغم بلوغها مستويات غير مسبوقة في الترهيب والرعب . كما يمكن اعتبار تصريح وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت ماكنامارا،والذي عمل مع رئيسين أمريكيين، هما جون كينيدي وليندون جونسون،وقد ارتبط اسمه أيضا بالتصعيد والتورط في حرب فيتنام ،يمكن اعتبار تصريحه بعد انتهاء ازمة الكاريبي"لقدانتهى عصر(الاستراتيجية) ، وبدأ عصر جديد يمكن أن نطلق عليه"عصر إدارة الأزمات" بداية فعلية لاستخدام هذا المفهوم . وقد أرَّخ ذلك فعلا لما اصطلح عليه لاحقا ب" فن إدارة الأزمات"، وأحيانا ب" سيكولوجية إدارة الأزمات"أو" سيناريوهات إدارة الأزمات" ويقتضي هذا الفن حسب المختصين دوما :"إدارة التوازنات والتكيف مع المتغيرات المختلفة وبحث آثارها في كافة المجالات"، فيما عرفها آخرون بأنها" المحافظة على الأصول وممتلكات المنظمة، وعلى قدرتها على تحقيق الإيرادات، كذلك المحافظة على الأفراد والعاملين بها ضد المخاطر المختلفة، والعمل على تجنب المخاطر المحتملة أو تخفيف أثرها على المنظمة، في حالة عدم التمكن من تجنبها بالكامل"، وهذا ينطبق أيضا على الدولة وإداراتها، من خلال "عملية الإعداد والتقدير المنظم والمنتظم للمشكلات الداخلية والخارجية التي تهدد بدرجة خطيرة سمعة المنظمة وبقاءها". ما هي أركان إدارة الأزمة؟ يجمع عديد الباحثين على تسمية خمس مراحل تَحكُم ما يسمى نظام إدارة الازمات وهي كالآتي: رصد إشارات الإنذار المبكر:بما معناه تحسس وتشخيص المؤشرات والأعراض التي توحي بوقوع أزمة ما، ويتم هذا عادة عبر مراكز مختصة او حتى اقسام ضمن إدارات مختصة، وهذا ما يستدعي وجود خبراء في تخصصات مختلفة يعملون كفريق يجمع ويحلل البيانات، من أجل التنبؤ بالأزمات، وهذا يبدو أنه لم يحدث في ازمة الإصابات بالكوليرا، والشاهد هو تعدد البؤر الوبائية على مساحات شاسعة ومتباعدة. 2- الاستعداد والوقاية: وتعني التحضيرات المسبقة للتعامل مع الازمة المتوقعة، بقصد منع وقوعها أو تقليل آثارها إن وقعت ، وتتضمن في الدول التي تحترم مواطنيها حتى محتوى وصيغة البيان الصحفي الذي يتضمن الإعلان عن وقوعها ،حيث تتم صياغته عادة باستحضار العديد من العوامل ،كنفسية الناس خلال الازمة ،ردود الفعل المتوقعة ،التعامل الصحفي والإعلامي مع الازمة ،أثرها في الاعلام الدولي ،تأثيرها على مصداقية الجهة المعنية بالأزمة لدى نظيراتها في الدول الأخرى وغيرها من العوامل التي تميز عادة أجواء الازمة ،وبالنظر لما شاهدناه وسمعناه ،لا شيء من هذا حصل ،خاصة عندما تغنى أحد المسؤولين مواسيًا لا أدري نفسه، أم الحكومة أم الاعلام ،بأن لسنا لوحدنا من أصيب بالكوليرا بل النيجر والتشاد واليمن ، ناسيا أو متناسيا أن هذا التمثيل فيه ازدراء وتقليل من شأننا كبلد يحترم هذه الدول بلا شك ولا يتعالى عليها نظرا لمستواها الاقتصادي ووضعها الأمني والسياسي ،ولكن في نفس الوقت عيب وعار ،أن يتم تبرير وتسويق الموضوع بغية تمييعه والتخفيف من وطأته ،بمقارنة الجزائر كدولة إجمالي الناتج المحلي فيها سنة 2016 هو 156 مليار مع دولة التشاد التي اجمالي الناتج المحلي فيها هو 9 مليار دولار في نفس السنة ، ومع النيجر 7.5 مليار دولار ومع اليمن 18 مليار دولار، ونحن الدولة التي اقرت ميزانية قدرت ب75 مليار دولار لسنة 2018 ؟. 3- احتواء الأضرار: ويتم ذلك بتنفيذ المنصوص عليه في خطة الخطة الموضوعة خلال مرحلة الاستعداد والوقاية والعمل طبعا على عدم تفاقم الأزمة واتساع رقعة انتشارها. 4- استعادة النمط العادي: وهي مجموعة من العمليات الإدارية التي يقوم بها الجهاز التنفيذي لغرض استعادة التوازن في الآداء وممارسة المهام والمسؤوليات، بشكل يضمن القدرة على ممارسة المهام الاعتيادية، وتبديد أدنى شعور بنزول مستوى الخدمات وتسيير الشأن العام دون المستوى السابق (ما قبل الأزمة). 5- التوثيق والتعلم: والمقصود بها استخلاص الدروس وتحليل النتائج ثم وضع آليات عملية قابلة للتطبيق الميداني لمنع تكرار مثل هذه الأزمة، وكذا "بناء خبرات من الدروس والتجربة لضمان مستوى عالٍ من الجاهزية في المستقبل". ثم العمل على عرض التجربة على ما يسمى بالمنظمات المتعلمة ،خاصة تلك التي مرت بأزمات مشابهة للاستفادة من الوسائل التي استخدمتها ،وأيضا من اجل تحليل موضوعي لخطة التدخل بغية اكتشاف مكامن الخلل وتطويرها من اجل فاعلية أكبر، كما يجب تحويل الخطوات العملية التي تمت بالدافعية والبديهة ،الى إجراءات ونماذج إدارية (Guide line )بحيث في حالة تكرار الازمة وعدم تواجد الأشخاص الذين عايشوا الازمة السابقة لسبب او لآخر ،ما على الفريق الجديد سوى اتباع التعليمات والنماذج الموضوعة من اجل أداء سليم يكفل التعامل الصحيح مع مختلف الازمات على مستوى مختلف الصعدة. هل بتنا نفتقد لتقاليد الدولة؟ "L' Algérieest un pays depourvu des traditions etatiques" Michel Jobert* هكذا رد ميشال جوبر وزير الخارجية الفرنسي الأسبق على سؤال طرح عليه عن الجزائر، وبلا شك فان تصريحه ينِمُّ ربما عن مقاربة ونظرة فرنسية دونية لبلد لم تستسغ ربما استقلاله (على الأقل في جزئية خروج فرنسا من الجزائر جغرافيا)، ولكنه في الحقيقة تصريح مؤلم ،يحاصرني كلما تأملت التخبط والرطانة التي صاحبت الكشف عن وجود إصابات بالكوليرا بالجزائر ،حيث في بادئ الأمر أنكر معهد باستور ذلك ،ثم بدأت الفضائيات الخاصة تناقل الخبر بين من يؤكد وبين من ينفي ،بل وهاجمت احدى الفضائيات نظيراتها اللواتي اعلن عن وجود حالات كوليرا ،وتحولت تغطيتها بدل التركيز على الوباء المجهول حسبها ،الى تصفية حسابات وكيل الاتهام للفضائيات الأخرى بعدم المهنية ،وسرعان ما صدر تصريح آخر من نفس المعهد يؤكد الخبر ،ولكن المؤسف في التصريح أيضا هو عدم اكتفاء المصرح بالالتزام بما يتعلق بالموضوع ،حيث اردف بالقول ان مجرد الإعلان يعتبر شجاعة سياسية ،وهو ما فهم لدى الجميع أنها محاولة عبثية لتحويل الإعلان عن حالات إصابة بمرض من العصور الوسطى الى انجاز و بطولة وملحمة ، وسط ركام من الخوف والهلع والهرولة نحو مياه الشرب المعبأة ،والتي أصبحت نادرة وفي بعض المناطق منعدمة ،وان وجدت فهي بأسعار مضاعفة مقارنةبأسعارها الحقيقية . توالت التصريحات من جهات متعددة، تأخر تصريح وزير الصحة أكثر من ثلاثة أيام بعد حدوث الوباء، عجَّت وسائل التواصل الاجتماعي بسجال محتدم بين مدافع عن الخدمات الصحية بالوطن، وبين ناقم على تعدد الإصابات بأمراضلم تعد تُصَب بها حتى الدول الأقل شانا مننا اقتصاديا وعلميا، ويا ليته كان السِّجال الوحيد، فقد تابعت نقاشات عديدة بين مدافع عن وزارة الصحة واعتبارها ليست المسؤولة لوحدها عن هذا الملف، وبين متهم لهذه الوزارة بالعشوائية وقلة النجاعة والفاعلية، باعتبارها المسؤول المباشر على صحة الجزائريين. الارتباك الحاصل في التصريحات، تعدد مصارها وتعبيرها في غالب الأحيان عن اراء أصحابها الشخصية، دليل لا يحتاج الى دليل على ما يلي: أولا غياب خطط إدارية معتمدة لإدارة الازمات على مستوى الحكومة، بدليل عدم توحيد مصادر التصريحات، احتوائها على الفاظ ومصطلحات غير دقيقة، وحتى احصائيات متناقضة وأرقام خاطئة، ناهيك ان الخطابات المتعددة دللت أيضا على غياب التنسيق بين الجهات المسؤولة ربما لغياب مركز ثقل أو جهة مسؤولة تصوب وتوجه وتنسق؟ ثانيا عدم وجود اشخاص مختصين على مستوى وزارة الصحة نفسها، وكل من صرح تكلم باسمه ومسماه الوظيفي، غير مستحضر أن القضية أضحت قضية راي عام محلي ودولي، وأنه بتصريحه لا يمثل نفسه إنما هيئة معنوية في سقف توقعات المتلقي للتصريح هي الدولة عرفا أو السلطة السياسية حقيقة (حتى لا نخلط بين مفهوم الدولة والسلطة). تتعدد الازمات بالجزائر، تتوالى وتتنوع ويبقى الأسى كل الأسى هو التعاطي السطحي معها في كل مرة، بلا شك ستنسينا الأحداث القادمة فضيحة الكوليرا لكن العالم لم ولن ينسى ذلك، وقد وثقها بشكل يضع منظومتنا الصحية والبيئية تحت طائل التشكيك والاستفهام. Pidgin*"اللغة التي ليس لها متكلمون أصليون، فلا يوجد فرد نشأ وترعرع على هذه اللغة،يمكن القول إنها موجودة في أغلب بلدان العالم، وذكر هيدسون أنها نشأت لأغراض عملية ومباشرة بغرض الاتصال بين أناس لا توجد لديهم لغة اتصال مشتركة." سعود عبد العزيز الجنيدل –ارتشاف الكلمات جريدة الجزيرة السعودية * من مواليد 11 سبتمبر 1921 بمدينة مكناس المغربية سنة 1921- توفي سنة في 25 مايو 2002 خريج المدرسة الوطنية للإدارة بباريس معهد الدراسات السياسية – وزير الخارجية الفرنسي السابق،بين أبريل 1973 ومايو 1974