أريد أن أحفظ القرآن، ولكنني لا أعرف كيف وقد أشار عليّ من أحفظ معهم بعرض مشكلتي عليكم. فهل هذا نتيجة لعدم ثقة بالنفس.. أتمنى أن يكون هذا، أم أن الله حجز عني هذه النعمة بسبب ذنب أذنبته أو خطأ ارتكبته ؟.. أخاف جداً ألا يكون الله راضياً عني. أنا لا أعرف الحل.. فهل يمكن أن تساعدوني ؟. يقول الدكتور محمد المهدي الأخت الفاضلة الكريمة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبارك الله دينك وأهلك ومالك.. أرى أن لديك حرصا طيبا على حفظ القرآن وحماسا كبيرا لذلك ، وقد بدأت القرآن من آخره ( الجزء الثلاثين ) ثم عدت لأوله ( سورة البقرة )، وكنت تحفظين صفحتين كل أسبوع وهو معدل مناسب ، وتحفظين كذلك مع مجموعة، وهذه ميزة طيبة تساعد على الحفظ. لكن عندما واجهتك مشكلة النسيان - وهى أمر طبيعي- شعرت بالقلق لأنك لا تريدين أن يحول بينك وبين حفظ القرآن شيء، ومع هذا كنت مستمرة فى محاولاتك، إلى أن جاء اليوم الذي سمعت فيه أن ''أكثر الناس عذابا يوم القيامة هو من يحفظ القرآن وينساه''، ولست أدرى مدى صحة هذا الحديث، ولكن على أي حال فقد ترك أثرا كبيرا فى نفسك حيث تحول القلق إلى خوف شديد فتوقفت عن حفظ الجديد وعدت تحاولين تثبيت القديم واسترجاعه فصعب عليك القديم والحديث. وهناك ظاهرة تسمى ''الانغلاق'' وهى الشعور بأن ما حفظناه قد محي تماما من رأسنا حين نحاول استرجاعه دفعة واحدة، وهذا يحدث كثيرا قبل وأثناء الامتحانات، وسببه القلق الشديد على المادة المحفوظة ومحاولة استرجاعها دفعة واحدة. والذاكرة تتكون من ثلاث مراحل: التسجيل ثم التخزين ثم الاسترجاع. ولكي تتم هذه العمليات بكفاءة يجب أن يكون الإنسان في حالة هدوء وصفاء ذهني وأن يحب ما يحفظ، وأن يكون في مكان هادئ، وأن يبتعد عن كل ما يشوش وعيه قبل وبعد الحفظ. وقلقك الشديد على عملية الحفظ قلل كثيرا من كفاءة حفظك فازداد قلقك أكثر فضعف حفظك أكثر وأكثر، إلى أن سمعت الحديث فأصبت بحالة خوف شديد فتوقفت قدرتك على الحفظ أو كادت أن تتوقف. والقلق والخوف من المشاعر التي تجعل الحفظ غاية في الصعوبة؛ لأنهما يؤثران في كل خطوات الذاكرة وعملياتها سابقة الذكر. والحديث الذي أثار فزعك - إن صح سندا ومتنا- فإنه يشير إلى النسيان الصادر عن الإهمال والهجر واللامبالاة بكلام الله، ولا يشير إلى ما يعترى الإنسان من نسيان طبيعي بحكم الظروف النفسية والبيئية، والذي يؤكد هذا المعنى قول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فالإنسان لا يحاسب على النسيان الطبيعي، وفي الحديث: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). والنسيان كما قلنا ظاهرة طبيعية، وقد وجد أن الإنسان إذا قرأ شيئا مرة واحدة دون أن يسترجعه فإن فرصة تذكره بعد أسبوعين تكون حوالي ,20 أما إذا قرأه واستعاده من ذاكرته ( أي حفظه) فإن فرصة تذكره تصل إلى 65-,75 فإذا راجعه مرة ثانية بعد أسبوعين تصبح فرصة تذكره حوالي ,85 فإذا راجعه مرة ثالثة تصبح فرصة تذكره بعد أسبوعين حوالي ,95 ولكن مع مرور الوقت وعدم استعادة المادة المحفوظة يضعف تذكرها شيئا فشيئا ولكنها تكون قابلة للتنشيط مرة أخرى. نقول لك هذا كي تعطى اعتبارا للقوانين الطبيعية في التذكر والنسيان، وإذا كانت هذه قوانين طبيعية فلا يجب أن ننزعج منها. والناس يتفاوتون في قدرتهم على الحفظ، وهذا لا يرتبط بالضرورة بدرجة الذكاء، والحفظ يكون أسهل في الصغر حيث المخ ما زال خاليا من المشاغل والتشويش، ويكون أفضل وسط مجموعة، ويكون أفضل لو نام الشخص بعده مباشرة حيث يتم تثبيته والاحتفاظ به في الذاكرة طويلة الأمد أثناء النوم، ويكون أفضل لو فهم الإنسان معنى ما يحفظه، ويكون أفضل لو مارس الإنسان ما يحفظه في حياته اليومية. وقد وجد أن النوم له أهمية كبيرة في تثبيت الحفظ فالناس الأفضل نوما (من حيث الكم والكيف) يحفظون أفضل، لأن عملية نقل المعلومة من الذاكرة المتوسطة إلى الذاكرة طويلة الأمد تتم أثناء النوم. والصحابة رضوان الله عليهم جميعا لم يكونوا يحفظون القرآن أو أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم بنفس الدرجة، ولم ينزعج أحد منهم لذلك، ولم يصروا أن يصبحوا جميعا فى درجة حفظ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في حفظ القرآن ولا أبى هريرة رضي الله عنه في حفظ الحديث، ولكنهم كانوا جميعا حريصين على أن تكون حياتهم قائمة على القرآن سواء حفظوه أو لم يحفظوه، وعاشوا تميزهم فى مجالات أخرى عديدة، فالله سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق والملكات بين الناس. فإذا قل قلقك وزال خوفك وأصبحت أكثر طمأنينة وتذكرت قوانين الذاكرة والنسيان التي ذكرناها، فإن ذلك يساعدك كثيرا على الحفظ. واعلمي أن الحماس تجاه الأشياء الطيبة دافع لإتمامها ولكنه إذا تجاوز الحدود المعقولة أصبح مشوشا وأحيانا عائقا ضد الإجادة حيث يؤدى للعجلة والصخب والاضطراب. وتذكري قول رسولنا الكريم: ''إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفقس. وأنت محقة في ربطك بين رضي الله وسهولة الحفظ، وهذا ما ذكره الإمام الشافعي فى شعره : شكوت إلى وكيع سوء حفظي*** فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور*** ونور الله لا يهدى لعاص وهذا يدفعك لمراجعة أخطائك، والتوبة منها وزيادة رصيد حسناتك، ولكن لا تبالغي فى الشعور بالذنب؛ لأن هذا يزيد من حالتي القلق والخوف اللذين تكلمنا عن أثرهما السلبي على عمليات الذاكرة. واعلمي أنك ستؤجرين - إن شاء الله - على محاولاتك، وعلى صعوباتك سواء نجحت في الحفظ أم لم تنجحي، وتذكري أن تنزيل القرآن على السلوك اليومي ربما يفوق حفظه في الذاكرة.