منذ ذاك العهد والكتب تطبع على الورق بلا أدنى تغيير ولا تبديل ولا تطوير.. جاءت التكنولوجيا وتفشت الرقمية وعمت الانترنيت والناس لازالوا مع الورق.. مخلصين له، محبين له .. شاشات الكمبيوتر غزت المكاتب والمنازل وأصبحت من لزوميات حياة الإنسان المعاصر.. ولكن لا غنى عن الكتاب وعن الورق.. لا أحد مثلا بإمكانه أن يرى بداية النص وكيف ينتهي إلا بواسطة الكتاب الورقي.. كثيرون من تحمسوا وتنبأوا بموت الكتاب الورقي على يد التكنولوجيا والمعلوماتية.. وثمة من سارع للاستخفاف به وبمستعمليه وذهب حد وصف الكتب المطبوعة ب ''قوارير الأفكار'' وبالمقابل ورغم إدمان الناس على استعمال التكنولوجيا والانترنيت نجد التيار المؤيد للكتاب المطبوع يرفض خيانته والتفريط فيه تحت تأثير وإغراء سحر ومرونة التكنولوجيا.. القوى المحبة للكتاب لازالت ونحن في الألفية الثالثة على أشدها وعلى إخلاصها له.. لا شيء يغرر بها ويجعلها تستغني عن ملمس ومرأى الكتاب الورقي.. ذاك المستكين الصاغر الطائع بين يديها.. من مثله يتكيف معها ويرافقها في أوضاعها الحميمية..عند النوم وعند الأكل وفي لحظات الاسترخاء والتأمل.. ولا يتأخر عن مرافقتها وإفادتها بما تريد في أي وقت أو ظرف أو وضعية بلا أدنى حاجة إلى أي وصل كهربائي أو طاقوي أو غيره.. الأصابع وحدها تتحكم فيه.. تلوي أوراقه، تعلّم على صفحاته وفقراته وتسطر على كلماته.. وهو هنا راض بقدره، سعيد بخدماته، متقبل لنزعاته.. إنها حكمة الورق وصبره.. أنصار التكنولوجيا تنبئوا بموت الكتاب الورقي وانقراضه من المكتبات ومن المحافظ والأيادي.. لكن الواقع كذب ولازال مزاعمهم.. وهاهو الكتاب يصمد ويثبت وجوده ودوره كما لم يثبت أبدا.. هذا لا يعني عدم الإقرار بمزايا التكنولوجيا وتأثيراتها الكبيرة على نواحي حياتنا ودورها في تقريب البعيد والحصول على المعلومة والمعرفة.. لكن هذا لا يعني أنها بلا عيوب ومنزهة عن النقائص، ويكفي مشاكل القرصنة والتلاعب بالمعطيات والحقائق الذي يحدث يوميا عبر الانترنيت.. نحن اليوم نرى مؤسسات بأكملها خصصت لمكافحة القراصنة وفرز البضاعة الأصلية من المزورة المسروقة التي تعرضها الانترنيت.. وتشير الأرقام أن نسبة البرامج والأعمال المختلسة وصلت في بعض البلاد المتقدمة إلى 09 في المائة، وهذه التلاعبات والنشاطات غير المشروعة والسطو عبر تقنيات المعلوماتية تكلف خسائر باهظة ويزرع الشك والتخوف من التكنولوجيا الحديثة.. أكبر الخبراء والمتخصصين لم ينجحوا في حماية المنتوج التكنولوجي، ولا أن يجدوا حلا لمنع استنساخ أي بضاعة معرفية ومعلوماتية تعرضها شبكات الانترنيت.. كل ما في الانترنيت قابل للتزوير والتحوير والنهب والإبادة والتشويه والتحريف والتغليط.. وكما نبغ خبراء في جعلها أداة سحرية في يد مستعمليها ثمة من نبغ في جعلها مصدر استرزاق غير مشروع، ووظفها لأعمال وسلوكات لا عقلانية ولا أخلاقية ولا إنسانية.. هذا وأكثر من هذا يحدث في الأنترنيت ووسائل التكنولوجيا.. ويبقى الكتاب الورقي في منأى عن هذه المخاطر ولا يمكن أن يطاله شيئ مما ابتليت به الوسائل الأخرى.. ولعل ذلك ما يستثير غيرتها من الكتاب الورقي.. وتتمنى لو تتحول إلى ورق مثله.. حتى لا يلحقها مثل الذي لحق بها ولازال .. ومع ذلك لا يمكن للكتاب المطبوع بأي حال من الأحوال أن ينكر فضل التكنولوجيا عليه.. يعلم جيدا أن فضلها عليها لا حد له فهي التي أتاحت له التطور الكبير والانتشار الواسع ولم تبخل عليه بالمعلومات والمعطيات المعرفية ..