ليس الهدف من هذا المقال سرد ما جاء في الأوراق والمداخلات، فهذا يتطلب موضعاً آخر، وإنما تقديم شهادة ذاتية للكاتب أو لنقل جملة من المقولات والأفكار حول المرئي من ''حركة فتح الله كولن''، من واقع زيارات عدة إلى تركيا في السنوات العشر الماضية، فضلاً عن عدد من الاحتكاكات الفكرية والإنسانية مع بعض أعضاء هذه الحركة سواء في القاهرة أو في أسطنبول وأنقرة وبورصة. والحق أن من اعتاد السفر إلى تركيا قبل السنوات الخمس الماضية يدرك إلى أي حد تغيرت هذه البلاد في سلوكها الجماعي الاجتماعي والديني. فمن كان يُصدم بصور كبيرة الحجم منافية للذوق والقيم الشرقية في مطار أسطنبول سابقاً، يجد أن الأمر عولج من منظور محافظ يراعي القيم الدينية التي باتت غالبة في الشارع كما في الممارسة اليومية. ولا يمكن القول هنا إن تلك بدورها نتيجة مباشرة لحركة كولن وحسب، فهناك حركات دينية وصوفية أخرى كثيرة لعبت الدور نفسه، وإنما لأن المجتمع أخذ يعود إلى هويته الراسخة تاريخياً ووجدانياً، والتي لم يؤثر فيها تراث الأتاتوركية الإقصائية للدين التي استمرت ثمانية عقود، والتي هي الآن مُحاصرة وآخذة في الأفول. وعن ''حركة كولن'' يمكن القول إنها تبدو كتنظيم وفي الوقت نفسه لا تنظيم. فمن شروط التنظيم الانضباط ووضوح القيادة، ومن علامات اللاتنظيم انفراط العقد وترهل القيادة، بل وغيابها. في ''حركة فتح الله كولن'' لا يوجد تنظيم بحسب ما رأينا، بل حركة اجتماعية تقوم على مبادئ إيمانية، نظّر لها وصاغها فتح الله كولن نفسه واقتنع بها محبوه ومريدوه والذين أصبحوا مرجع النظام العام للحركة. إذاً نحن أمام نظام متكامل فكري وسلوكي يتداخل مع درجة عالية من الانضباط ووضوح الدرجات في التعامل بين العناصر المشكلة للحركة والنظام معاً. وفي أحد الأوصاف فهي شبكة علاقات ومؤسسات متداخلة ومستقلة في آن. وفي هذا النظام الفكري السلوكي، هناك نقطة ارتكاز محورية، تتمثل في الشيخ فتح الله كولن نفسه، فهو العالم والأستاذ وصاحب الأفكار والملهم والمحبوب والشيخ الجليل، الذي تصبو إليه نفوس محبيه، يعشقون كلماته ويحترمون تعاليمه، ويعملون على هديها في الانتشار وفي الحركة سواء داخل تركيا أو خارجها. والشيخ هنا ليس شخصاً عادياً، بل هو معين متجدد من الأفكار والشروحات والإلهامات الإيمانية والتربوية. جوهر الحركة في شقها السلوكي هو ''الخدمة'' ذلك التعبير الذي صكه الشيخ والتي تستهدف تغيير أحوال البيئة المعاشة، وهي الجامع بين القادر والمحتاج، بين صاحب المال وصاحب الحركة وصاحب الفكرة. بهذا المعنى فإن الخدمة هي نظام التفاعل بين الفرد والجماعة والحركة، هي أساس التناغم بين الفرد كأحد أعضاء الجماعة وبين الهدف الأكبر وهو إصلاح حال الأمة الإسلامية على امتداد وجودها المكاني الجغرافي، كمقدمة لإصلاح حال الإنسانية. وكل من تعرفنا إليهم في ''الخدمة'' يشعرون بأنهم يؤدون رسالة إيمانية بالدرجة الأولى، واجتماعية مدنية بالدرجة الثانية، وأنهم جميعاً أصحاب قدر واحد، ومن هنا حالة التضامن الشديدة بينهم. و''الخدمة'' هي النظام الذي تتقاسم فيه الأدوار وتتكامل، فهناك ''الأصناف أو التجار''، أو من هم مصدر المال، وهناك العمال/ أعضاء الحركة بالمعنى الرحب، والذين يوظفون هذا المال لتجسيد فكر الحركة / الجماعة في الإصلاح والتربية والتغيير. مع ملاحظة أننا شاهدنا انضباطاً وتقسيماً للعمل والأدوار وتراتبية تنظيمية لُحسن تسيير العمل، ناهيك عن سلاسة منقطعة النظير. والاهتمام الأول للحركة يكمن في تربية النفس والروح، وتقوية عزيمتها الإيمانية والرسالية. وما رأيناه من اهتمام بالتعليم، مدارس وجامعات ونظماً تربوية يعكس أهمية بناء الإنسان منذ الصغر ومن خلال مجتمع مؤمن عقيدة وملتزم سلوكاً. ولذا فالمعلم في داخل الخدمة هو الأساس. ومنظومة المدارس كالفاتح والوادي الأخضر متشعبة ومنتشرة في ربوع تركيا، ولها أسلوبها المتميز في الإدارة والتربية والبنية الأساسية الراقية المتطورة. ومن خلال تلك المدارس والجامعات تعمل الحركة على إعادة بناء المجتمع بطريقة سلمية وتدريجية وتراكمية. ولذا فلا توجد تفرقة في تقديم الخدمة، كل من يطلبها يجدها حتى ولو لم يكن من القريبين من الحركة أو المؤمنين بأهدافها. وتبدي الحركة اهتماماً فائقاً بالطلاب من المناطق الفقيرة والنائية والريف خارج المدن الكبرى، من أجل مساعدتهم على إكمال تعليمهم، ومن ثم يكونون أعضاء فاعلين في نظام الخدمة. ومما سمعته أن ثمة خياراً أمام هؤلاء الخريجين، إما العمل في سلك التعليم أو العمل في مجال التجارة، أي أن يكون من الأصناف، أو الممولين للخدمة. حسن أبو طالب