خرج جوليان قاصدا بلدة فيريار، كان وعد ماتيلدا أن يراسلها حال وصوله. لكنه نكل بوعده لأن رحلته لن تستغرق وقتا طويلا ثم إنه وجد مبررا في حالته النفسية المضطربة...فأصابعه لا تقوى حتى على حمل قلم ولا يمكنه أن يكتب حرفا واحدا مفهوما للعيان.وصل جوليان البلدة في صبيحة يوم احد، وعند نزوله من العربة انعطف مباشرة قاصدا محل بائع الأسلحة المشهور، لم يكن ينتظر كل ذلك الترحاب من صاحب المحل الذي أغرقه بعبارات الود و المجاملة ،مما جعل جوليان يتنبه الى مكيدة البائع المدسوسة في صيغ الترحيب والإطراء الفض الذي كان يمهد به في كل مرة يشتم فيها رائحة زبون دفيّع، لم تمض لحظات حتى شاع خبر قدوم شاب غريب توجه راسا الى محل بيع الأسلحة مثلما تشتعل النار في كومة قش، لم يستطع جوليان أن يلوي ظهر البائع المتحمس الذي أفهمه مراده في إقتناء مسدس مناسب لقبضة يده وبضع رصاصات ... وما إن سمع صاحب المحل ذلك حتى وجد جوليان نفسه محاطا بكومة أسلحة من كل الأصناف فما كان منه إلا أن إنتقى ما يناسبه. تعوّد الأهالي في المدن القصيّة على سماع دقات أجراس الكنسية في لحنها المتناغم وما إن تنتهي من عزفها الحالم حتى يشرعون في إصلاح هندامهم و التوجه مباشرة الى الموعد الديني أين يقام القدّاس الأسبوعي كل يوم أحد في كنيسة البلدة. قصد جوليان الكنسية، و بينما كان في الطريق بعيد وصوله قابلته النوافذ العليا للمبنى مزدانة بستائر كبيرة قرمزية اللون و حين تخطى عتبة الباب ليدخل قابله مباشرة مقعد السيدة دورينال على بعد خطوات منه،تسمّر الرجل في مكانه وتلوى كحرباء ثم راح يتأملها بنهم بينما هي غارقة في صلواتها ...للحظة تذكر عيناها الجميلتين لطالما أحبهما وذاب لأجلهما لحد العبث، فقد كانتا مبعث قشعريرة لا تقاوم، وهاهي اليوم بالذات تؤثر عليه كأي يوم مضى، تردد في النظر الى وجهها، تأكد أنه لو يفعل وأن حدق فيه سيتراجع عما عزم على فعله''.. إني قادر على فعل ذلك'' قال جوليان مخاطبا نفسه بحماس وفي قرارة نفسه شكك في قدرته على المضي في تنفيذ خطته الى نهايتها. في هذه اللحظات دخل كليرك أسقف الكنيسة بخطوات متباعدة ثم وقف معلنا بداية الصلاة، وإذ ذاك انطلقت الأجراس في عزف شجي غمر أرجاء البلدة المقفرة، وما فتئ أن اندس رأس السيدة دورينال بين طيات شالها الفضفاض،مما جعلها تغيب عن نظر جوليان الذي كان يجتهد في مراقبتها ومع ذلك تعّرف عليها ، لم يتردد لحظة ، فأخرج مسدسه وصوّبه بطريقة آلية نحو السيدة و ضغط على الزناد فانطلق العيار الناري مدويا، تنحنح جوليان عن مكانه ببضع سنتيمترات ثم ما فتئ أن أطلق عيارا ثانيا فسقطت السيدة دورينال على الأرض غارقة في دماءها. تسمّر جوليان في مكانه للحظات من دون حراك كأن أحد جاء و عصّب عينيه و لما استرجع وعيه وجد الدنيا واقفة على كف عفريت، سكن الذعر أرجاء المبنى و تبعثر الحضور بشكل مهول،هرب الجميع الى الخارج بما فيهم أسقف الكنيسة الذي أعلن عن انتهاء القدّاس في إضطراب،كل ذلك حدث و جوليان يراقب مرور اللحظات الفوضوية في ذهول مميت ،تعالى عويل النسوة وصراخ الأطفال ، حتى أن إمراة اندفعت هاربة بجلدها و ما إن كادت تصل باب الخروج حتى تعثرت بأحد المقاعد المقلوبة فتهاوت ساقطة على الأرض كجذع شجرة ، لم يكن هناك حظ للتعبير عن الألم،و في الحين تم إلقاء القبض على جوليان و أول ما تم حجزه مسدسه الذي همّ بإستعماله مرة أخرى لو لا تفطن أحد رجال الشرطة الذي تصدى له و منعه. سيق جوليان الى الحبس مباشرة،و القي به في زنزانة مقيد اليدين وأقفل عليه بابها بمخرطتين ليجد نفسه وحيدا في النهاية. سيبقى كذلك محبوسا لأيام في إنتظار محاكمته،''إنتهى إيماني عن آخره'' غمغم جوليان بهذه الكلمات بينما عيناه معلقتان في السماء. ''أجل ... بعد خمسة عشر يوما بالضبط ستعالجني المقصلة بشفرتها،كم هو مؤلم ذلك''. كل مشاريعه و أمور خطط لها راحت هباءا منثورا، لم يكن يدري مصيره هكذا، تحسس رأسه وهو يطالع المكان بعينان ذابلين وفي قلبه أمنية أن يجد من يؤازره في محنته، وبعض لحظات من التفكير، إنقلب على جنب وراح يغط في نوم عميق. قصة مأخوذة من رواية ''الأحمر و الأسود''