لم يكن للجزائر أن تكون مرتعا للثوار ومنبتا للحركات التحررية بمحض الصدفة، هذا البلد العظيم عظمة وعراقة شعبه لم يقدم دروسا في المقاومة والحرية فحسب، بل صدّر أروع صور التسامح والعيش معا في سلام منذ مئات السنين وإلى غاية اليوم. القصة لها تاريخ طويل اخترنا لكم فصلا من فصولها أرخه رجل الظروف والأزمات الأمير عبد القادر الجزائري، الذي كان علامة فارقة في تاريخ الجزائر، تمتع بمكانة عالية في فهم الرهانات الإنسانية والسياسية والعسكرية، حسب الكاتب والدبلوماسي السابق كمال بوشامة، فارتقت مفاهيمه وأفكاره وتعاليمه لمستوى العالمية. الأمير عبد القادر الجزائري و إلى جانب حنكته العسكرية و الديبلوماسية التي أرختها كتب التاريخ بكل اللغات تميز بمسؤولية كبيرة اتجاه شعبه ووطنه، فأسس الدولة الجزائرية الحديثة من خلال نشاطه السياسي و الدبلوماسي ما جعل المستعمر الفرنسي يعترف بدولته وما زاد من ثقل هذا الرجل الفريد من نوعه وحشده لاحترام وتقدير حتى أعداءه سعيه لزرع روح التسامح و الأخوة و العيش في سلام ونضاله المتواصل في سبيل ترقية حقوق الإنسان. وستظل في هذا الخصوص قصة "باب تومة الشهيرة" التي أنقذ فيها الأمير المسيحيين بدمشق من الدروز عام 1860 عندما آواهم في قصره من أروع الرسائل الإنسانية التي قدمها في بناء التعايش و تقبل الآخر وهي القصة التي ذاع صيتها حسب الأستاذ الجامعي و الباحث الدكتور محمد الأمين بلغيث، وجنب من خلالها المنطقة السقوط في مستنقع الدم بسبب الفتنة والصراع الجديد المحتمل بين الأديان بتدخل القوى الأوروبية. اشتهر الأمير عبد القادر بشخصيته الصوفيه التي استمدت تعاليم ومبادئ الإسلام من الزوايا و لا تتفق فلسفته في الحقيقة مع الحرب بل هو إنسان محب للسلام راعيا للمحبة و الوئام كيف لا وهو من قال " لو استمع إلي المسلمون و المسيحيون لجعلت منهم إخوة " فهو يؤمن بالدفاع من المظلومين و المضطهدين بغض النظر عن عرقهم و لونهم و يفرق بين وجوب محاربة المعتدي على أرضه و من يستحق العيش بسلام على تلك الأرض حتى لو كان مختلفا عنه. رسالة قيصر الروس: "إلى الأمير عبد القادر، اقتضت رغبتنا أن نشهر التفاتنا إليكم بشهامتكم وعملكم بما اقتضته الإنسانية، و اجتهادكم في إنقاذ ألوف المسيحيين من أهالي دمشق ، الذين وجدوا في خطر عظيم، اقتضى الحال أننا سميناكم من أعظم فرسان رتبتنا الإمبراطورية المشهورة بالنسر الأبيض" رسالة ملك إيطاليا: "إن عظيم تصرفكم في أمر المسيحيين في الحوادث الشامية قد أثبتت أمام أوروبا أنكم ممن حاز المزايا الحربية العظيمة، خصوصا في الحادثة الدمشقية التي أنقذتم فيها النفوس الكثيرة، فكان ذلك حلية لنفسكم الكريمة المصطفاة، ثم إنه يوجد بيني وبينك أيها الأمير العزيز مواصلة أفرح بذكرها وهي محبة الحرية التي تجعل تابعيها محافظين على العدالة الحقيقية ". رسالة ملكة إنجلترا: من جلالة ملكة المملكة المتحدةبريطانيا العظمى إلى صاحب السمو الأمير عبد القادر، تذكارا للمساعدة الخيرية المبذولة للمسيحيين في دمشق سنة 1860. رسالة رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الأمير عبد القادر: "إن الأمير عبد القادر قام ابتداء من سنة 1837م، أي قبل اتفاقية جنيف بكثير، بتحديد مفهوم حقوق المستضعفين والمغلوبين والأسرى وجرحى الحرب والسجناء و قام بتقنين هذه الحقوق التي كانت غير معروفة". وكان رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة وبمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الأمير عبد القادر قال في رسالة وجهها للمشاركين في هذا الملتقى أنذاك إن الأمير عبد القادر قام بصياغة مرسوم وطني تناول طرائق الحرب. وهو مرسوم يمنع على جنوده المساس بكرامة الأسرى وبسلامتهم الجسدية. وقد قيد هذا القانون العسكري الذي كان يحظر تعذيب الأسرى من الأعداء وقتلهم، في ميثاق حظي بدوره بموافقة زعماء العشائر وممثلي هيئات الدولة الجزائرية آنذاك وجاء في كلمة رئيس الجمهورية كذلك أن هذه الاتفاقية كانت سباقة لاتفاقية جنيف التي تم تبنيها سنة 1864. ويؤكد رئيس لجنة الإعلام بمجلس الشعب السوري إلياس مراد أن شخصية الأمير عبد القادر تحظى باحترام وتقدير الشعب السوري بمختلف طوائفه الدينية، حيث كان له الفضل في ترسيخ مبدأ العيش الواحد ببلده مشيرا إلى أن موقفه اتجاه المسيحيين وبطولاته مدونة في المناهج التربوية السورية و تلقن للأجيال الصاعدة. كما يرى الدكتور أحمد ميزاب رئيس اللجنة الجزائرية الإفريقية للمصالحة أن الجزائر اشتهرت بنشر قيم السلم و المصالحة و من ذلك آخر مبادراتها التي حظيت بالقبول لدى هيئة الأممالمتحدة و الخاصة بترسيم يوم ال17 أكتوبر يوما عالميا للعيش في سلام بعد نجاح تجربة تطبيق ميثاق السلم و المصالحة الوطنية الذي تبناه الشعب و احتضنه بناءً على أصالته وعقيدته و المدرسة التي ينتمي إليها. رسالة السلام التي رافع من أجلها الأمير عبد القادر هي رسالة أممية يعتقد الدكتور أحمد ميزاب، فهي صالحة لكل مكان و زمان. ستظل النزعة الإنسانية والروح الوطنية و النظرة الحديثة لبناء الدولة الوطنية شمعة تضيء تاريخ الجزائر و ذكرى لا تموت لتجديد طاقات وعزم الأجيال القادمة.