فرصة تاريخية نادرة قادتني إلى زيارة غرفة ومكتبة الأمير عبد القادر، مؤسس الدولة الجزائرية بحي العمارة بدمشق القديمة. ظلت هذه الغرف في البيت الذي قضى فيه الأمير ثلث حياته مغلقة ولم تدخلها وسائل الإعلام لمدة قرن ونصف قرن. وقد تزداد أهمية هذه الزيارة بالنظر لما تعيشه دمشق اليوم.. حنينا إلى فكر الأمير عبد القادر الذي أحبها واختارها سكنا بعد المنفى وقبرا للقاء ربه، بوصية دفنه أمام شيخه ومعلّمه الشيخ محي الدين ابن عربي بدمشق القديمة. كانت ل"الخبر" فرصة الاقتراب عن كثب من ذلك الحنين الذي يزداد يوما بعد يوم، عربيا وإسلاميا، إلى فكر الأمير، سيما بالعراقولبنانوسوريا المدفوع أهلها قسرا إلى وادي الفتنة. تزامنت زيارتنا إلى بيت الأمير عبد القادر بحي العمارة، بدمشق القديمة، وهو البيت الذي منحته السلطات العثمانية للأمير سنة 1860 عقب إطلاق سراحه من المعتقل بفرنسا، مع الأحداث الأمنية الساخنة التي تشهدها سوريا منذ ثلاث سنوات، ما جعل من موضوع الأمير عبد القادر، الذي لطالما جسّد صورة للإسلام الحميد والبعيد عن الشذوذ والتطرف، أكثر أهمية من أي وقت مضى؛ فالأمير الذي عاش رفقة عائلته معظم حياته في هذا البيت، الذي أصبح مركزا ثقافيا يشرف عليه حفيده الأصغر، الأمير جعفر الحسني، بات يحمل كثيرا من الآمال لضرورة إعادة إحياء فكر الأمير الذي مرّ بالخير والمصالحة والتسامح على دمشق، ومرّ أيضا بمبادئ الزهد والحكمة والعلم في القرن ال18، خصوصا عندما عصفت الأزمة الطائفية الشهيرة ببلاد الشام سنة 1860، ليسجل الأمير في ذلك الزمن علامة فاصلة في تاريخ الشام المعاصر، وقد أصبح المشهد السوري، اليوم، مشتتا في بحر الطائفية. لا تزال جدران البيت الرئيسي الذي عاش فيه الأمير عبد القادر ثلث عمره شاهدة على ملامح السلام والإنسانية، بعد أن اندلعت الفتنة في لبنان. وكما أكد لنا حفيد الأمير عبد القادر، الذي ورث البيت عن والده الأمير أحمد حفيد الأمير عبد القادر، فإن غرف الأمير ومكتبته الخاصة لم تزرها أي وسيلة إعلامية من قبل. ويبدو من خلال الألوان الأصلية لغرفة نوم الأمير ومكتبته عشق الأمير عبد القادر للون الأخضر، الذي ظل يعتبر لونا قريبا من تاريخ الإسلام، فجدران المكتبة ذات المساحة المتواضعة هيّأها الأمير على شكل خزانة كتب كانت في قديم الزمان مرصصة بالكتب، وتحمل زخرفات عربية وتعلوها لوحة فنية طبيعية تضم معالم تاريخية عالمية، كما يظهر في الزاوية الشمالية من الغرفة علم الجزائر الذي رسمه الأمير منذ حوالي مائتي سنة، باللون الأخضر والأبيض، وتتوسط المربعات التي خصصها الأمير بعلو جدران البيت للكتب مزهرية بدأت تتآكل ألوانها بفعل الزمن. يتكوّن البيت من طابقين، وتقع المكتبة وغرفة نوم الأمير في الطابق العلوي. ويبدو اهتمام الأمير بالنوافذ كبيرا جدا، فجميع غرف البيت تعطيك إطلالة على ساحة البيت الرئيسية التي اجتمع فيها يوما كبار علماء العالم، وظل الأمير يخلو إليها لساعات طويلة؛ يتعبّد ويتعلّم من أفكار نشر العلوم الشرعية، مستنيرا من فقه صحيح البخاري ومسلم وموطأ الإمام مالك الذين ينشدون السلام، على عكس الفتاوى التي غزت عقول الشباب المسلم اليوم، والتي أدخلت سوريا في أزمة طائفية، وخاصة بعدما أثار الشيخ عدنان العرعور فتواه الخاصة بقتل العلويين و«أكل وبيع لحمهم”، أو كما قال الشيخ القرضاوي إنه لا يفهم كيف يستطيع 100 مليون شيعي أن يتغلبوا على 1,7 مليار سني، وكلها أفكار هدامة تحاصر سوريا اليوم. بيت الأمير.. من مركز التسامح إلى صرح ثقافي يقع البيت بحي العمارة بدمشق القديمة، وهو موقع هام جدا اختاره الأمير قبل نحو قرن ونصف القرن، يطل على نهر بردة من الجهة الشمالية، ويقابله مقام السيدة رقية بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي يقع على بعد بضعة أمتار من المسجد الأموي الكبير، ولهذا النسيج التاريخي، فإن الأمير اختار حي العمارة القديم، الذي هو من أبرز أحياء مدينة دمشق القديمة المدينة، والأقدم في تاريخها. مقبرة الفتنة في الشام لا تزال رائحة الأمير عبد القادر تعبق جدران البيت بفضل حفيده الأمير جعفر الحسني، الذي أعاد ترميم جزء كبير منه من ماله الخاص، في مهمة إحياء تراث تاريخ مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، الذي ظل يحلم بعالم خال من الفتن الطائفية، زاهدا في السلطة والمال. وقد كان بيت الأمير عبد القادر قبلة العلماء بما جعله صرحا يحج إليه كل سكان الشام، سيما عندما أصبح البيت رمزا لوأد الفتنة، بعد أن استقبل كافة نصارى البلد، وسهر على تقديم الطعام والشراب لهم لمدة 15 يوما. بُني البيت بعد 5 سنوات من وصول الأمير إلى دمشق قادما من بورصا، برعاية السلطان العثماني، الذي أعطى الأمير قطعة أرض مقابلة للمسجد الأموي ومأذنة العروس التاريخية. وهنا تكمن أهمية البيت الذي شيد بطريقة معمارية جميلة، جعلت الأمير يستقر به وحاشية كبيرة من أولاده وأحفاده ووزرائه. وقد احتاج الأمير إلى عدة بيوت لتكون سكنا لأفراد حاشيته، حيث قام بإعادة بناء العديد من المساكن المجاورة لبيته لتكون سكنا لهم. وقد ركز على الطابع الجمالي للبيت من خلال الاعتماد على الطراز الدمشقي والفن الغربي باستخدام الرخام الإيطالي (الركوكو)، بما يعكس البعد العالمي في ثقافة الأمير عبد القادر. ويتكون البيت من طابقين، وقد خصص الأمير الناحية الجنوبية العليا من البيت غرفة خاصة له، بنوافذ تطل على فناء البيت الذي استخدم لاستقبال أعيان دمشق ومن خارجها. في هذا البيت مرض الأمير بالقصور الكلوي، وتم نقله إلى بيته في القصر الصيفي حيث وفاته المنية سنة 1883. وبعد ذلك ظل البيت بين مدّ وجزر ونزاعات قانونية، قبل أن يعود إلى وريثه الشرعي الأمير جعفر الحسني، وهو أصغر أحفاد الأمير عبد القادر عن جده أحمد ابن الأمير عبد القادر. ولا يزال البيت يحتاج إلى الترميم، حيث قام حفيد الأمير بترميم جزء من الدار، وتم تحويله إلى مركز مؤسسة دولية أسّسها كوكبة من العلماء السوريين وأحفاده وسفارة الجزائر. وهي ليست معنية فقط بتراث فكر الأمير، وإنما بمحاربة فكر التطرف والخلافات، نظرا لحجم الفتنة التي يعاني منها المجتمع العربي والإسلامي. من ينتصر لفكر الأمير في سوريا؟ بالنظر إلى “الحرب” السورية نلمس كيف أن أفكار الفتنة الطائفية التي غرقت فيها سوريا منذ ثلاث سنوات، حيث تقود فصائل ما يلقب ب«داعش” و«جبهة النصرة” وغيرها مخططا لتحويل الثورة السورية السلمية التي كانت تطالب بإسقاط نظام بشار الأسد إلى جبهات تتحارب على تقسيم سوريا باسم الطائفية، رغم جهود بعض الأقطاب السياسية المعارضة التي تدعو إلى نبذ العنف، كالجبهة السورية التي ضمت تيارات سياسية وشخصيات وطنية مستقلة تدعو إلى الحوار ووقف العنف، إلا أنها لم تنجح في الوصول إلى أفكار الأمير عبد القادر الذي حارب الفتنة الطائفية في عصره بحكمته وإيمانه بالعدل والمساواة والسلم. فغير بعيد عن بيت الأمير عبد القادر نجد مشهدا لدعاة الفتنة الطائفية اليوم في سوريا، حيث ترقد السيدة رقية بنت الحسن، وقد تعرّض ضريحها إلى عدة محاولات “فاشلة” لهدمه، على غرار المصير الذي أصاب ضريح السيدة زينب في دمشق الذي دمر خلال الأحداث السياسية المتخمة بالدعوات الطائفية، والتنافس بين القوى الإقليمية والعالمية، وكذلك العداء الطائفي بين المسلمين السُنّة والشيعة. وفي وقت يتحدّث الخبراء عن مصير لسوريا مماثل لما عرفه العراق بعد أن سقط نظام صدام حسين، حيث تراجع دور العلماء المسلمين بعد أن ضعفت حجتهم وكثر أصحاب المصالح فيهم، تجوّلنا للبحث عن الأمير عبد القادر وفكرة في ذهن السوريين، وسألنا بعض الشباب والكهول عن الأمير عبد القادر وهل يعرفون دوره وأفكاره في التاريخ الإنساني، وللأسف لم نجد الكثير من الشباب يعرفون الأمير، إلا من قليل حدثنا عنه كقائد حارب الاستعمار. فأفكار الأمير العظيمة التي أنجت بلاد الشام من كارثة تاريخية يوما ما، اليوم بدت لديهم هجينة، رغم أن الواقع الإسلامي والعربي يستدعي أفكار الأمير التي عززت مكانته ضمن العظماء وأعطت صورة حقيقية عن الإسلام المتسامح، في وقت اندلعت الحملات الشعواء التي تنتهجها حاليا بعض وسائل الإعلام لجعل الإسلام محل تخوّف قصد تضليل الرأي العام، حتى أصبح ذكر اسم المشايخ، كالشيخ االقرضاوي “شؤما”، وعلى هذا النحو علماء السعودية الذين انحاز بعضهم إلى جهة دون الأخرى، بينما بعثت القنوات الفضائية جيوشا من مشايخ الفتاوى الجهادية يدعون إلى الفتنة الطائفية باسم الدين. ليبقى السؤال مطروحا: أين هم علماء الأمة أمام مواجهة خطاب الفتنة الطائفية في سوريا، ومنع انتشارها في العالم العربي والإسلامي لحقن الدماء في سوريا، والحفاظ على وحدتها ووحدة الأمة العربية والإسلامية؟ رغم أن الجواب في حكمة الأمير التي نجحت في إطفاء نار فتنة، وأقنعت فرنسا بإعادة 10 آلاف جندي فرنسي كانت قد أرسلتهم في مهمة تدمير بيروت، فالأمير اتخذ من عقيدة التسامح حصنا قويا في مواجهة الغرب. الأمير.. الزاهد الذي رفض الحكم والسلطان وتفرّغ للعلم والتعبد في هذا البيت كتب الأمير عبد القادر، في 10 جوان 1860، إلى صحيفة “أغل دي باري”، يشكو الوضع والسلطنات المسيحية والإسلامية، وكانت الفترة هي حرب بين الدروز والمروانة، قبل أن يقرر إعلان اعتزال السياسة في الشام، وطبقا لما جاء في الصحيفة، فقد قال الأمير عن ترشيحه حاكما لسوريا: “لتطمئن تركيا أنني أنهيت مسيرتي السياسية، ولا أطمح إلى سلطان على بشر أو مجد في الدنيا”. وكان للأمير عبد القادر الذي جعل من بيته قبلة للجميع، للصغير قبل الكبير، الفضل ليس فقط على نصارى دمشق الذين حماهم، بل أيضا على أعيان الشام الذين كانوا يستشيرونه في كل كبيرة وصغيرة، لأنه عرف كيف يدافع عن حرية الأفراد واحترام الاختلاف والرأي، ما جعل من طريقه إلى السلطان والجاه والحكم مدى الحياة قصيرا لو شاء، ولكنه بدا مستلهما أنبل ما في الدعوات الإسلامية، على وحدة المصير ومعارضة تدمير الإنسانية، شأنه في ذلك شأن العالم محي الدين ابن عربي الذي كان ينظر إلى الدين نظرة باطنية ويتجاوز المظهر الخارجي، مؤكدا على إبراز المشترك بين الإنسانية. وهو ما يفسر كيف أنهى الأمير عبد القادر حربه التي دامت 17 سنة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حيث كانت آخر معركة دفاعية خاضها الأمير بدافع حقن دماء المسلمين، وأن لا يقتل المسلم أخاه المسلم والعربي. .. حول أحفاد الأمير الحقيقيين من المغالطات الإعلامية الكبرى التي يروّج لها الإعلام هو وصف بعض الأشخاص الذين ينحدرون من عائلة الأمير عبد القادر الكبرى بالأحفاد. فحتى من الناحية اللغوية لا يجوز طرح هذا اللقب إلا على الابن، وهو ما يطرح إشكالية قانونية، سيما فيما يخص تاريخ الأمير عبد القادر الجزائري لحمايته من أي تشويه أو تعرض للانتقاد، بسبب تصريحات “المدّعين” انتماءهم إلى الأمير عبد القادر، الذي كان لديه 10 أولاد فقط، ولم يبق منهم إلا أربعة: الأمير علي والأمير أحمد، وهو جدّ الأمير جعفر، والأمير محمد باشا والأمير الهاشمي. وهؤلاء الأربعة هم ذرية الأمير وكلهم مسنّون، ولا يتجاوز عدد أحفاد الأمير 12 حفيدا، وهم لا يهتمون بالسياسة وغير منتسبين إلى أحزاب سياسية أبدا، حيث فضّلوا الابتعاد عن مشاحنات السياسة والاعتكاف للعمل الفكري والخيري من خلال حلقات الذكر والفكر. متحف الأمير في قصره الصيفي يتعرّض للتشويه من الأشياء المحزنة في تاريخ الأمير عبد القادر اليوم في سوريا هو حالة متحف الأمير عبد القادر بقصره الصيفي بضاحية دمر، التي بنى بها سنة 1860 قصرا عقب إطلاق سراحه من المعتقل الفرنسي. وهو القصر الذي كان يعود إلى الأميرة بديعة، وقد تكفل الاتحاد الأوروبي بإعادة ترميمه بتكلفة صيانة بلغت مليون و400 ألف أورو. وقد تم تخصيص غرفة داخل القصر لتكون متحف الأمير عبد القادر، فيما أصبحت معظم أجنحة القصر مركزا للتنمية المحلية والمستدامة التي تشرف عليه سوريا. في الغرفة المتحف المتواجدة بقصر الأمير بمنطقة دمر، والتي تضم مقتنياته القليلة والنادرة مثل الأوسمة الثلاثة المشهورة التي كان يعلّقها الأمير عبد القادر على صدره في الصورة الوحيدة التي التقطت له بعد انتهاء أحداث الفتنة الطائفية، لاحظنا إهمالا شديدا من المشرفين على المتحف، حيث إن مقتنيات الأمير النادرة كانت متواجدة بغير عناية في المتحف. فلم يخجل المشرفون على مركز التنمية المحلية والمستدامة من تحويل الغرفة الوحيدة المخصصة لمقتنيات الأمير النادرة إلى مخزن، كما لاحظنا أن أكواما من الخردوات ومواد التنظيف والكارتون تم وضعها في غرفة الأمير الوحيدة في هذا القصر. ورغم أن البيت يتربع على 1882 متر مربع، إلا أن مركز التنمية المحلية جعل من غرفة الأمير المسجلة في اليونيسكو مستودعا للخردوات. م.ع رئيس مؤسسة الأمير عبد القادر محمد معتز السبيني ل”الخبر” “نطالب باسترجاع أرشيف الأمير من فرنسا” دعا الدكتور محمد معتز السبيني، رئيس مؤسسة الأمير عبد القادر بدمشق، إلى ضرورة استرجاع أرشيف الأمير عبد القادر من فرنسا. كما قال في حوار أجريناه معه ببيت الأمير عبد القادر بدمشق: “عندما نثبت الأمير نثبت الذات ونثبت هوية الجزائر”. هل لك أن تقرّبنا أكثر من تاريخ الأمير عبد القادر وأحفاده في دمشق؟ مضى على وفاة الأمير حوالي مائة وخمس وثلاثين سنة، وأحفاده يعيشون اليوم في دمشق، ومنهم الأمير طاهر ولد الأمير جعفر، والأمير الفاتح. واهتمامهم مركّز على الفكر والثقافة بعيدا عن السياسة. ويطلق على أحفاد الأمير لقب “الأمير” من باب الشرف، لأن الإمارة بمعناها الحقيقي كانت للأمير بموجب اتفاق وطني وبيعة. ويحظى أحفاد الأمير في دمشق باهتمام خاص، وذلك بتوصية من السلطان الثاني والي دمشق الأسبق حمدي باشا. ومن أهم الكتب التي ألّفت عن عائلة الأمير ما كتبه ابنه سعيد بعنوان “تحفة الزائر في تاريخ الجزائر” و«الأمير عبد القادر.. أصول الأمير وإخوة الأمير وأولاده”، وبهما الكثير من الجوانب العامة والخاصة بحياة الأمير الذي كان يحتفظ بشجرة للعائلة تنتهي إلى إدريس ابن إدريس، والتي تتصل بسيدنا الحسن. ما رأيك في الكتب والمؤلفات التي تتحدّث عن الأمير عبد القادر وفكره؟ معظم الكتب التي تناولت الأمير ركّزت فقط على غزواته وحروبه ضد فرنسا وتأسيسه للدولة الجزائرية، ولم يكتب عن الأمير من الناحية العليمة والتخصصية بشكل واسع. هل رأينا دراسة تتناول الأمير محدّثا أو فقيها؟ هذا الجانب يمكن أن يؤطر من الناحية العلمية، فالأمير ظلم ويجب ألا ينظر إليه فقط على أساس أنه مؤسس دولة حديثة؛ فالأمير عندما انتقل إلى الشام لتأسيس مرحلة جديدة من حياته ألّف بعض الكتب. وقد كان الأمير واسع العطاء الفكري في دمشق، ويعتبر مرجعا بالنسبة لكبار المشايخة الذين كانت تزخر بهم دمشق، أمثال محمد الخاني ومحمد الطنطاوي وعبد المجيد الخاني، وكلهم كانوا في مجلس الأمير. لا يتوقف أعداء الأمير عن ترويج شائعات تورّطه في علاقات مشبوهة مع الماسونية. ما تعليقك؟ هناك من وجّه للأمير العديد من الاتهامات، وهي اهتمامات لا أساس لها من الصحة. ليس لدينا أي شك في أن فكر الأمير عبد القادر مبني على التسامح، لأنه رجل دين وفكر، فقد توجه إلى الفكر والفلسفة والتدبر بالتسامح من خلال الدعوة إلى الإسلام الوسطي؛ وهو ما وثّق له في المبايعة الأولى عندما كتب: “واعلموا إن غايتي القصوى هو اتحاد الأمة المحمدية”. وقد سعى الأمير إلى الإخاء بين المذاهب الجعفرية والسلفية والصوفية والوهابية، وفق احترام الآخر، وهذا ما يثير حفيظة أعداء الأمير الذين لم يجدوا أي شبهة في سيرته، فروجّوا إلى علاقات غير صحيحة مع الماسونية. فعندما انتصر الأمير على الفتنة الطائفية أرسل له قادة العالم رسائل تهنئة، ومنهم الماسونية، فالأمير كان متاحا لكل الناس، والكل كان يريد أن يجذب الأمير إليه. كيف يمكن تحقيق مكانة الأمير عبد القادر في هذا العصر؟ أتمنى أن ننصف تاريخ الأمير بالبحث العلمي، ومن خلال استرجاع أرشيفه المتواجد لدى وزارة الخارجية الفرنسية. يحب أن يكون أرشيف الأمير متاحا للبحث العلمي. نحن نطالب باسترجاع أرشيف الأمير عبد القادر من فرنسا لتقديم التاريخ كما هو. ينبغي أن يكون التاريخ حرا نزيها، فالتاريخ لا يعرف المحاباة والمجاملة، لأن العبرة من التاريخ الاستفادة والاعتبار بمنهج السلف، عملا بالبيت الشعري المأثور: إذا علم المرء أخبار من مضى توهمته قد عاش من أول الدهر عزاؤنا في شخصية الأمير وأفكاره، عندما نرى هذه الأخلاق والإرث الثقافي بيننا. فعندما نثبت الأمير نثبت الذات ونثبت هوية الجزائر. ما هو دور مؤسسة الأمير عبد القادر الثقافية في هذا الإطار؟ دورنا هو التعريف ولو بشيء قليل من حياة الأمير. أنا عضو مؤسس، وكنت نائبا للأمير بشار رحمه اللّه. ولأن الأسرة لا تريد أن يكون رئيس المؤسسة من أسرة الأمير، فقد تم تعيين خلف له. وفي ظل الأزمة الأمنية التي تعيشها سوريا فإن الأنشطة كلها معلّقة، وأهدافنا في المؤسسة لها جانب فكري تربوي ثقافي، ونسعى إلى التركيز على الرسالة التي جاء بها الأمير. كما أتمنى في يوم من الأيام أن أكتب عن فترة الأمير في دمشق، على النحو الذي يقوم به الدكتور سهيل زكار، كما كتب فارس لعلاولي وثائق المحاكم الشرعية التي تظهر لأول مرة حول فترة حياة الأمير عبد القادر بدمشق.