تعلم الفن مقابل ''المطلوع'' والزبدة والدفلة والحليب عندما دخلنا منزل الحاج محمد الطاهر الفرفاني، كان محاطا بعدد كبير من الأهل والأقارب الذين جاؤوا للاطمئنان على صحته، وبعد مدة تناقص العدد وكانت لنا معه جلسة حميمية، استمتعنا فيها بحديث الحاج عن ذكرياته، وبالجدال والاستفزاز المتبادل بينه وبين الحاجة ''طاطا''، إحدى صديقات العائلة، التي كانت في كل مرة تتدخل لتصحح له تاريخا أو اسما ذكره، فيوافقها تارة ويجادلها تارة أخرى في جو من المرح والضحك. في حديثه عن العملية الجراحية التي أجراها مؤخرا لتغيير البطارية الخاصة بتنظيم نبضات القلب، أصر الحاج على التأكيد بأنه يتوفر على كل الإمكانيات للسفر إلى الخارج، لكنه فضل إجراءها في قسنطينة لأنه فخور بالإطار الطبي الجزائري ويثق في قدراته. قرأت آية الكرسي وشاشة الطبيب بددت المخاوف ذكر الحاج الفرفاني أنه أحس ببعض الخوف قبيل إجراء العملية، لكن البشاشة التي لاحظها على وجه الطبيب الجراح بددت كل مخاوفه. وأضاف أن الطبيب طلب منه مساعدته أثناء إجراء العملية بعدم التحرك. يقول ''قرأت آية الكرسي، وتمددت لمدة ساعة ونصف دون حراك، وتمت العملية، والحمد لله، في أحسن الظروف''. وأعرب عن شكره لمحبيه الذين لم يتوقفوا عن السؤال عنه منذ إجراء العملية. ورغم ثقل السنين الثلاثة والثمانين وتراكمات مسيرة فنية تجاوزت الستين سنة، مازال الحاج محمد الطاهر يبدي رغبة كبيرة في الغناء، ولما سألناه، مداعبين، عن تاريخ حفلته القادمة، رد علينا بحماس كبير ''إن شاء الله عندما أتعافى تماما، قبل إجراء العملية كنت أجد صعوبة في تحريك يدي ومسك الكمان، لكن الآن الحمد لله يداي تتحركان بسهولة، والصوت كما ترى في غاية ما يكون''. بعد الإطمئنان على حالته الصحية التي قال إنها تتحسن، عاد بنا محمد الطاهر الفرفاني إلى ذكريات الحج الذي سافر لأدائه في الستينات بسيارته الخاصة مرورا بتونس وليبيا ومصر، يتداول على السياقة مع صديقة العائلة الحاجة ''طاطا'' ومعهما أخته الفنانة المرحومة ''زهور'' وفردين آخرين من العائلة. وتحدث عن اللقاءات التي جمعته خلال هذا السفر بعمالقة الفن المصري الذين أعجبوا بصوته، وكانت الحاجة ''طاطا'' تتدخل لتصحح بعض التفاصيل حول ما وقع لهما من مغامرات أثناء السؤال عن الطريق أو أماكن للمبيت، فيوافق الحاج تارة ويرد مستفزا تارة أخرى '' ماشي هكذا، أنت اللي ماتشفايش''، وكنا نستمتع كثيرا بهذا الجدال بينهما. عندما تجلس مع الحاج محمد الطاهر الفرفاني ويفتح لك صندوق ذكرياته تتمنى أن يستمر في الحديث دون توقف، لأن هذا العملاق الذي أدى حوالي 005 أغنية كانت له صولات وجولات في الكثير من الدول منها تونس، المغرب، نيجيريا، فرنسا، بلجيكا، ألمانياالشرقية سابقا، الولاياتالمتحدةالأمريكية، أزبكستان وروسيا التي أدى أمام الدهشة الكبيرة لجمهورها، أغنية ''باتروشكا'' بالعربية. وأعجب بصوته وأدائه الكثير من الرؤساء منهم الحبيب بورفيبة، روبير موفابي، فيدال كاسترو، الماريشال تيتو وغيرهم. شهرته بدأت بأغنية وزعت دون علمه يحلو للحاج أن يتحدث في كل مناسبة عن بداية شهرته الفعلية ويروي أنه تلقى سنة 3591 دعوة للعشاء في عنابة بمنزل أحد معارفه ''بشير رصايصي'' الذي كان يملك أستديو، حيث سجل له أغنية ''حبيبك لا تنساه'' في أسطوانة 87 دورة أعطاه نسخة واحتفظ بالأصل ثم قام بتوزيعها دون علمه. '' عندما بلغني الأمر وسمعت أغنيتي في أماكن عمومية، قلت له خدعتني بالملح ... مانسامحكش عند ربي''. يضحك الحاج ويضيف ''ندمت على ذلك فيما بعد وسامحته لأن تلك الأسطوانة كانت سبب شهرتي''. للحاج محمد الطاهر الفرفاني الكثير من الطرائف التي يحب روايتها كلما دار الحديث عن بداياته، قصته مع شيخه ''بابا عبيد'' الذي علمه فن المالوف ''كان بابا عبيد لا يطلب مقابل تعليمي سوى الكسرة خميرة (مطلوع) والزبدة والدفلة والحليب الرايب. وكنت أحضر هذه المأكولات ثم نتوجه إلى جبل الوحش حيث يأكل حتى يشبع، ثم يطلب مني البحث عن حجرين (يحكم بيهم الميزان) وننطلق في التمارين''. ''الرجل الجوق'' والصوت الذي لا يعرف المستحيل بحوزة محمد الطاهر الفرفاني الكثير من الآلات الموسيقية التي تلقاها كهدايا، يحتفظ بها في منزله بفخر واعتزاز، وهو أمر طبيعي إذا علمنا أن البعض يطلق عليه صفة ''الرجل الجوق'' لأنه يعزف على كل الآلات. ويذكر على وجه الخصوص ''زرنة'' يحتفظ بها لحد الآن، يقول إنه تلقاها هدية من عازف إلتقى به في أحد الأعراس حضره بفندق الإسكندرية عندما سافر برا لأداء مناسك الحج في الستينات. وزيادة على كونه حالة فريدة من نوعها في العزف، زادها خصوصية عزفه باليد اليسرى دون تغيير مواقع الأوتار، وهب الله الحاج الفرفاني إمكانيات صوتية خارقة للعادة، حيث يؤكد الجميع أن صوته لا يعرف المستحيل، وهو بشهادة أهل الفن أحسن صوت في الموسيقى الأندلسية ''قوي، حنين ويطرب المستمع''. وكان لولعه بالفن الشرقي في بداية مشواره أثره في كيفية أداء المالوف الذي طعمه ببعض النغمات الشرقية التي أعطته طابعا خاصا ينفرد به ولا أحد يستطيع تقليده. ولأن الحاج حفّاظ له ذاكرة قوية، فإن الحديث معه يكون دائما مطعما بقراءات لقصائد وموشحات، وكثيرا ما يستحضر ذكرى زيارته للقدس سنة 7691 حيث التقى بفنانين من حلب سألوه إن كنا في الجزائر نعرف موشحا اسمه ''غصن النقاء''، فأكمل لهم الحاج ''مكللا بالذهب''، ثم سألهم إن كانوا يعرفون في نفس هذا الموشح بيتين جاء فيهما ذكر ثلاثة أنبياء فردوا بالنفي، فقرأ لهم : لو صادف ''نوح'' دمع عيني غرقا أو شاهد لوعتي ''الخليل'' إحترقا لو حُمّلت الجبال ما أحمله صارت دكّا وخرّ ''موسى'' صعقا وعلى ذكر الحفظ يقول الحاج أنه لم يغن يوما من الورقة أو الكراس حيث كان يكتب النص أو القصيدة وعندما يحفظها يمزق الورقة لأنها ترسخ في ذاكرته إلى الأبد. وعمل على تنشئة إبنه سليم على هذا النهج. قصيدة عن الزعماء الخمسة وتحويل طائرتهم وللثورة التحريرية مكانتها في ذكريات الفرفاني، وكثيرا ما يستحضر من هذه الفترة يوم تحويل طائرة الزعماء الخمسة من طرف الاستعمار وإلقاء القبض عليهم، ويذكر أنه كتب حول الحادثة قصيدة وضع لها لحنا مشابها للحن أغنية ''فالوا العرب فالوا'' يقول في بعض أبياتها: باسمك ياإله وأنت تعلم يا عالم الكائنة في الأرضين بلغتني الأخبار باقي متهول نستغفر نقول صبري للحنين بن بلة وجماعتو قبضوا عليهم وللجزائر جاو بيهم قاصدين غرب وشرق حكاو على قضيتهم هذا الناس علاش راهم مرهونين، تكلم جمال عبد الناصر ونذرهم ومعاه تكلموا جميع المؤمنين محطات هامة في حياة الفرفاني عندما يسرد الحاج مسيرته الفنية يذكر دائما أن أول آلة بدأ يتعلم العزف عليها هي ''الجواق'' رفقة جاره قدور درسوني في ساحة حي ''سيدي جليس'' بالمدينة القديمة حيث كانت تقيم العائلة. ويذكر أيضا أنه كان يتردد على مقر جمعية ''طلوع الفجر'' الثقافية التي كان يرأسها محمد دردور، لتوفر كل الآلات الموسيقية. ''بمقر هذه الجمعية تعلمت العزف على الكمان بآلة جميلة جدا تلقاها دردور كهدية من فنان تونسي اسمه رضا القلعي كان قد التقاه وأعجب به''. ويذكر أيضا بداياته في أواخر الأربعينات حيث وجهت له الدعوة لخلافة عازف على آلة الكمان المتغيب في عرس لإحدى العائلات القسنطينية فتردد لأنه آنذاك كان يفضل العزف على آلة العود، لكنه وافق في النهاية وشارك في إحياء ذلك العرس الذي دام سبعة أيام وسبع ليال، وفيه حفظ الحاج أغنية ''ظالمة'' دون كتابتها من كثرة ترديدها. ويعتبر هذا العرس نقطة تحول كبرى في حياة الحاج محمد الطاهر الفرفاني الفنية، وكان بمثابة الإعلان عن الانتساب الفعلي لعائلة المالوف القسنطيني. كان الحديث مع الحاج محمد الطاهر الفرفاني متشعبا تناول ذكرياته الفنية وحياته الخاصة وحالته الصحية، وذكر في هذا الشأن أنه بينما كان يستعد لإحياء حفل في إطار سنة الحزائر بفرنسا أصابته وعكة صحية وكان لابد من إجراء عملية جراحية، لكنه أصر على إحياء الحفل، رغم تحذيرات الطبيب، مما دفع المنظمين إلى وضع سرير خلف الخشبة يرتاح فيه في انتظار دوره في العرض الذي أقامه ثم نقل مباشرة إلى المستشفى. وفي معرض الحديث ذكر أنه أجرى في حياته خمس عمليات جراحية، فاستفزته الحاجة ''طاطا'' قائلة ''هذا ماكان؟'' فصاح فيها ''كم عملية يجب أن أخضع لها حتى تقولين بزاف'' ثم قال مبتسما ''هذه مثل أختي.. وتتبغدد عليّ بزاف''. قبل خروجنا من منزل الحاج محمد الطاهر الفرفاني أصر على تحميلنا مهمة تبليغ محبيه والمعجبين بفنه خالص تشكراته على سؤالهم عن صحته وأحواله، مؤكدا لهم بأنه يتماثل للشفاء وأنه بعد فترة سيكون في أحسن حال.