صرخة نادي التفكير والمبادرة مزقت طبلات بعض الآذان - إجتماع الجهل والمال هدم كل شيء حتى الإنسان التطبيل لقرارات السلطة والتحول إلى لجان مساندة و''تسخين البنادر'' ليس قدرا محتوما على الجمعيات كان المرحوم حسين بن قادري أستاذ في الطب مختص في أمراض الأنف والأذن والحنجرة، ورئيسا لنادي التفكير والمبادرة، وهو من الجمعيات القلائل إن لم تكن الوحيدة في قسنطينة التي لم تكن تتلقى مساعدات مالية من الدولة. كان النادي يبحث عن مصادر تمويل لنشاطاته، وفي كثير من الأحيان يلجأ لجيوب منخرطيه وأغلبهم من الإطارات الطبية وشبه الطبية والأساتذة الجامعيين.عين المرحوم قبل وفاته بستة أشهر مديرا عاما للمستشفى الجامعي بقسنطينة، حيث أحدث فيه خلال هذه المدة القصيرة شبه ثورة في التنظيم والتكفل بالمرضى بشهادة الموظفين والمواطنين. المخابر الأجنبية تبيعنا كل شيء وأي شيء في لقاء مع ''الخبر'' قبل ثلاث سنوات، وكان آنذاك رئيسا لمصلحة أمراض الأنف والأذن والحنجرة، تحدث المرحوم بن قادري عن غياب منظومة صحية، وقال أن كل وزير يعين على رأس القطاع يأتي بأفكار يطبقها دون أن تكون له سياسة متكاملة بأهداف محددة وأولويات معينة. وذكر بأن المخابر الأجنبية أصبحت تبيعنا كل شيء وأي شيء. وأشار على سبيل المثال إلى قوقعة تم إستيرادها لفائدة من لهم مشاكل في السمع بسعر 25 ألف أورو للواحدة ''وهو بالنسبة لي تبذير للمال العام، لأن هذه القوقعة، وزيادة على كونها تجاوزها الزمن في الخارج، لا تشكل أولوية بالنسبة لنا مقارنة ببعض الأدوية الخاصة بمرضى السرطان، وراسلت الوزير في هذا الشأن، لكن الأمور تسير في كثير من الأحيان على أساس الإمتيازات التي يتلقاها البعض من هذه المخابر الأجنبية''. وذكر المرحوم أنه يحترم القطاع الخاص ''النظيف''، لكنه يتأسف لوجود بعض العيادات والأطباء الذين لا يفزقون بين الحلال والحرام، مشيرا إلى أنه ملتزم بالقطاع العمومي لمعالجة ''الزاوالية'' ويرفض رفضا قاطعا العمل في القطاع الخاص بأي شكل من الأشكال. عندما عين بن قادري على رأس المستشفى الجامعي بقسنطينة قال له أحدهم إن تغيير الأوضاع في هذه المنشأة الضخمة ''مهمة مستحيلة'' فرد عليه مبتسما ''سأجعلها ممكنة''. وفعلا كانت له إرادة فولاذية حيث أستطاع خلال مدة قصيرة أن يحدث شبه ثورة في جوانب التنظيم والنظافة والتكفل بالمرضى، وكثيرا ما كان يردد بأنه سيجعل هذا المستشفى ''كيف تاع لهيه''، لكن القدر لم يمهله لتحقيق هذا الحلم، حيث توفي بسكتة قلبية في مقر عمله بعد ستة أشهر على رأس المؤسسة. الوحيد الذي أقنعني بالإنضمام لجمعية في شهادته عن نشاطات المرحوم يقول حميد بلاغة الرئيس السابق لمكتب يومية ''الوطن'' بقسنطينة إن ''حسين بن قادري هو الشخص الوحيد الذي إستطاع أن يقنعني بالإنضمام إلى الحركة الجمعوية، لأن الجمعيات مثلما هي عليه، لا تستقطب سوى الذين يملأون القاعات للتصفيق والموافقة على برنامج من برامج السلطة. لقد أحدثت النشاطات التي قام بها نادي التفكير والمبادرة، برئاسة بن قادري، ثورة على الساحة القسنطينية، وأحيانا على المستوى الوطني. ومن هذه النشاطات تنظيف حواف وادي الرمال وبعض أحياء قسنطينة والمحاضرات في الثانويات والجامعات. ومن النشاطات التي أقامها النادي، وتبقى راسخة في ذهني، لقاءه مع عدد كبير من الأئمة في شرق البلاد والذين إنخرطوا بشكل كلي في مسعاه بالتطرق لقيم التحضر والمواطنة في خطب الجمعة.وأيضا لقاء الثقافات والأديان الذي إستطعنا أن نجمع فيه حول طاولة واحدة شخصيات مرموقة من الديانات الإسلامية، المسيحية واليهودية، وكان شبه ثورة لقيت رضى وإستحسان الإرادات الطيبة وأثارت غضب المتطرفين. لم يكن بن قادري يعرف المراوغة أو التحايل، وكان مثالا للبذل والعطاء بأقصى ما أوتي من طاقة، حتى أنه عندما عين على رأس المستشفى الجامعي، كان يؤدي وظيفة المدير والبناء والنجار والبستاني إلى أن خرت قواه وفارق الحياة في موقع العمل. ستبقى روح سي حسين وأعماله خالدة لأنه إستطاع أن يجعل الكثير من الجزائريين ينظرون للنشاط الجمعوي من زاوية التعاون والتحضر وليس الفساد والإنحراف والإنتهازية. لابد من صرخة روي بن قادري في أحد لقاءاته مع ''الخبر'' أن تأسيس نادي التفكير والمبادرة، تم صدفة ودون سابق تحضير ''أحسست يوما بالملل والتذمر من الوضعية المتردية التي آلت إليها عاصمة الشرق التي أعشقها حتى النخاع، فقلت في نفسي إذا كان أستاذ في الطب ضاق به الحال، فكيف بالمواطن البسيط. قلت لأفراد عائلتي لا بد من صرخة (كري بالفرنسية) لنسمع صوتنا وصوت المواطن الضعيف، وأعطت الأحرف الأولى للكلمة بالفرنسية تسمية نادي التفكير والمبادرة. فضل النادي منذ البداية الإعتماد على منخرطيه، وعدم طلب المساعدة من السلطات مثل أغلب الجمعيات التي تأخذ ولا تعطي شيئا. ولقيت نشاطاته في البداية ترحيبا من المسؤولين، وعندما بدأت تمس مصالح شخصية وفئوية تعرضت للحصار، ومع ذلك كما يقول المرحوم بن قادري ''صرختنا وصلت ومزقت طبلات بعض الآذان''. ويشهد الذين عرفوه أنه لم يكن ينتقد من أجل الإنتقاد أو الظهور، كما يفعل البعض، بل كان أيضا قوة إقتراح وله أفكار جعلته محل إحترام الجميع. مدينة اللاتسير واللاحق إنتقد النادي بشدة حال قسنطينة وكان رئيسه يقول بأن هذه المدينة ''أفرغت من كل كفاءاتها ومابقي منها ميت وهو حي، لم يتركوا له المجال للتعبير عن رأيه وخدمة مدينته''، لقد عام عليها الجهل كما يقول، واجتماع الجهل والمال هدم كل شيء.. حتى الإنسان هدموه. كانت نشاطات النادي كلها تركز على المواطنة وإشراك المواطن وتندد بفتح مختلف المنابر أمام الجهلة وغلقها في وجه المثقفين. وكان بن قادري يرافع دائما من أجل الذكاء والكفاءات التي لا تسير حسبه، بل أصحاب ''الشكارة'' هم الذين يسيرون. وصرح في أحد المنابر أمام مسؤولين سامين ووزراء بأن ''قسنطينة هي مدينة اللاتسيير واللاحق''. ورغم ما جلبته له تصريحاته ومواقفه من مشاكل، واصل نضالاته داعيا للمراهنة على المواطن وليس على الإسمنت الذي لا يفيد في شيء إذا لم يشرك المواطن في إنجازه وفي حمايته والمحافظة عليه. كان مسؤولو نادي التفكير والمبادرة، وفي مقدمتهم رئيسه، يؤمنون بأن التطبيل لقرارات السلطة والتحول إلى لجان مساندة و''تسخين البنادر'' ليس قدرا محتوما على الجمعيات، وأن الحركة الجمعوية يمكنها أن تساهم في تغيير الأوضاع نحو الأفضل بتشريح الواقع بسلبياته لتجاوزها وإيجابيات لتثمينها. الرجل الموقف برأي الإستاذ لوصيف يوسف، أحد الأعضاء النشطين في نادي التفكير والمبادرة فإن ''حسين بن قادري يمكن أن يطلق عليه ''الرجل الموقف'' في زمن عزت فيه المواقف، كان منحازا للحق والعدل، وسندا وعونا للمظلومين والمحتاجين. كان مدافعا قويا لترقية الصحة العمومية، وإنجازه في ظرف خمسة أشهر كمدير عام للمستشفى الجامعي دليل قاطع على أن الكفاءة والنزاهة ونظافة الذمة وصرامة الرجال، هي الدواء الناجع لسرطان الفساد الذي نخر المجتمع. كان قوي الحجة والرأي أمام المسؤولين، وصرخته في المجتمع المدني هزت أركان الشبكة العنكبوتية للفساد والمفسدين، وكشفت وعرت منظومة الرداءة التي حطمت البسمة والآمال في مدينة التاريخ والحضارة. وصرخته ''لا للتسيب ولا لتدهور أم الحواضر'' سببت له الكثير من المشاكل مع حماة الرداءة والفساد. وعلى صخرة صموده وقوة عزيمته إنهزم النخاسون حين كرم في أعلى صرح علمي أوروبي وحين كان يحاضر ويقدم بحوثه في المحافل العلمية الدولية. كان من أهل العمل وبهذا تجاوز مذهب زمرة الذين يقولون ويقولون دون عمل أو إنجاز يذكر. كان تأسيسه لنادي التفكير والمبادرة منهجا لترقية المواطنة وزرع قيم التمدن والتحضر والبذل والعطاء وقدسية المصلحة العامة. وكان الفعل التطوعي وملتقيات الحوار مع الفئات المختلفة لجمع الشمل، والأشرطة المختلفة التي أنجزت شهادة حية غير قابلة للتشكيك ولا للتقادم. فمنهج الأستاذ أكد لنا الحاجة الماسة لرجال المواقف والقيم والتضحية في سبيل المصلحة العامة ورفعة شأن الوطن. من أقوال ''سي حسين'' - قسنطينة لن تموت مادامت الشمس تأتي من الشرق. - نتمنى أن تغير السلطات العمومية مفهوم ''الصحة حق للمواطن'' إلى ''الصحة واجب الدولة''. - الدولة التي كانت المستورد الوحيد للأدوية والتجهيزات الطبية، تخلت عن هذه المهمة لأشخاص غرباء عن المهنة لا يفرقون في أغلب الأحيان بين البينيسيلين والبطاطا. - الدولة مطالبة بإعادة ترتيب الأمور في قطاع الصحة الذي يشكل في نظر الشعوب أحد الحقوق الأساسية، وأحد رهانات القرن الواحد والعشرين، فالصحة لها ثمن من منظور العولمة، والدول الغنية لن تترك للدول الفقيرة سوى إمكانية المساعدة الإنسانية التي تبقى صورة إنسانية لتدخل غير إنساني، من منطلق ''إحتكوا بالفقراء فلن تزدادوا إلا غنى''.