لو كانت لكل دولة أطماعا توسعية ك''المغاربة'' لتحولت إفريقيا إلى قنابل بوخروبة لم يكن ديكتاتورا.. وحاول دوما الجمع بين طرفي الأصالة والمعاصرة رجّح مستشار الرئيس هواري بومدين الأسبق، الدكتور محي الدين عميمور، أن تكون المذكرات التي كتبها الرئيس وهو على فراش المرض في روسيا، ما تزال محفوظة لحد اليوم ضمن ملفات الرئيس الشاذلي بن جديد، مشيرا إلى أنه قرأ فيها أسماء مسؤولين كان ينوي إحالتهم على التقاعد، وأن الراحل علق آمالا على مؤتمر الحزب لتحميل كل طرف مسؤوليته. عاد الدكتور عميمور بذاكرته إلى نحو ثلاثين سنة خلت، وهو يتحدث عن ملف كان قد عهد به إليه الرئيس السابق الشاذلي بن جديد، عن طريق قاصدي مرباح حتى يطلع عليه، ويتأكد إن كان فعلا يمثل مذكرات الرئيس الراحل هواري بومدين.
مذكرات بومدين حملت أسماء مسؤولين كان ينوي إحالتهم على التقاعد صمت الدكتور محي الدين عميمور هنيهة، ثم قال ''عكفت على دراسة المذكرات لمدة يومين، وتأكد لي بأنها مكتوبة بخط يد الراحل، طبعا هناك الكثير من الأشياء التي تساقطت من الذاكرة، وأخرى لم أستطع الكشف عنها، ولكن تبقى هذه المذكرات مليئة بالحياة وبالإيمان بالمستقبل، وبالشوق إلى الجزائر. وبقيت عبارته لو أتيحت لي الفرصة لسافرت على جناح طائر، ولاختصرت كل البلدان، في إشارة منه للرغبة الكبيرة في العودة إلى الوطن، تؤلمني لحد الساعة، كما تحدث عن مرضه الذي لخصه في تعبير مؤلم، وقفت متجها للحمام، لكنني وقعت على الأرض مثل بعير شارف''. وقد تضمنت هذه المذكرات، حسبما ذكره الدكتور عميمور، أسماء مسؤولين، كان محمد بوخروبة ينوي إحالتهم على التقاعد، بعد عودته إلى الجزائر، وكان اسم وزير أثار له المشاكل مدرجا كذلك، إذ قرر أن يعينه سفيرا في بلد ما. وتناولت المذكرات أيضا المرحلة القادمة من تاريخ الجزائر المستقلة، هذه المرحلة التي كان لمؤتمر الحزب كلمته في إعادة صياغة تفصيلاتها، ولكن يقول المتحدث ''ندمت فقط لأنني لم أقم بنسخ تلك المذكرات، وأعدتها كما هي إلى الرئيس الشاذلي، لأنني خشيت أن يسألني عن ذلك، وحتى لا أكذب عليه، فكانت غلطة''.
لم يتحدث هواري عن الموت في كتاباته بل عن تماثله للشفاء كانت سطور المذكرات في بعض صفحاتها متعرجة، يقول محي الدين عميمور: ''استطعت تلمس ما جرى من خلال ذلك، فقد يكون الرجل قد كتبها في الليل أو أسفل غطاء حتى لا يكتشف الآخرون ذلك. والأمر اللافت فيها أنه لم يتحدث عن الموت، بل كان يعبر عن تماثله للشفاء، وعودته لممارسة مهامه. والمعروف عن محمد بوخروبة أنه كان دائما يحاول معرفة رأي الشعب في كل ما يقوم به، خاصة بعد الانتخابات الرئاسية لعام .1977 استدعاني ذات مرة، وسألني فيما يفكر الشعب، وعندما هممت بالرد استوقفني قائلا: ''هل هذا رأي الشعب أم رأي أصحابك ومقربيك؟''، فأجبته ''بل رأي الشعب الذي أعطاك الثقة كاملة بعد مرحلة مجلس الثورة حتى تطهر المكان''، فقال الرئيس ''أنا لست مستعدا لإجراء 19 جوان جديدا، لأن مؤتمر الحزب قادم، وهو وحده من سيحمّل كل شخص مسؤولياته للخروج بالبلاد إلى مرحلة جديدة''.
كلّف محمد الصالح يحياوي بتنظيم الحزب لتلافي التناقض بين السياسة والمؤسسة العسكرية ذكر محي الدين عميمور أن بومدين قرر وضع الثقة في تنظيم سياسي جديد، وهو المناضل ببذلته العسكرية، ولكنه مع ذلك يبقى ابن حزب جبهة التحرير الوطني، وتبقى الأفضلية للمؤسسة العسكرية، وفي ظل هذه المتغيرات قرر إعادة الحياة للحزب. وكان ذلك من خلال إسناد تنظيمه لأحد كبار العسكريين محمد الصالح يحياوي، تفاديا لأي تناقض قد يحصل، مواصلا: ''وبما أن الرجل كان معرّبا والإدارة ''مفرنسة''، أراد بذلك أن يخلق تكاملا بين السياسة والمؤسسة العسكرية. وذهب لأبعد من ذلك، حين اختار المحافظين من قدامى الجيش، منهم حسان السوفي، خالدي حسناوي وأحمد قادري''. والهدف الذي كان يتأمله الرئيس، حسب الدكتور عميمور، من وراء ذلك كان بناء قاعدتين إيديولوجيتين، واحدة من ميثاق الحزب وأخرى مستخلصة من تجارب الحياة اليومية ومن العالم، ورأى أن زمن الحزب الواحد لا بد أن ينتهي، وكان فكره في تلك الفترة متجها نحو تحقيق التعددية، يردف المتحدث: ''ولكن لا بد أن يكون الانتقال إليها سلسا منظما، فنظر إلى دور جبهة التحرير التي رأى أنها يجب أن تتحول من ''حزب'' إلى ''جبهة''، مع إعطاء فرصة للأشخاص لبناء أحزاب، وهي العملية التي تم تكليف مستشاره للقيام بها، بمطابقة ما حصل في مصر مع أنور السادات، ومشروع ''المنابر''. بنبرة الواثق من نفسه، والمعجب بشخصية الراحل، أضاف عميمور ''فهمت أن الرجل ماض في اتجاه التعددية، والدليل الداعم الآخر لرؤيته هو التنوع الحاصل في الجبهة التي تضم الإسلامي واليساري وغيرهما، وهذه العناصر قادرة على تشكيل أجنحة تنبثق عنها أحزاب وفقا لإستراتيجية معينة''.
حزم بوخروبة فرضته مرحلة ''إقلاع الطائرة'' تأسف مستشار الراحل هواري بومدين سابقا للنعوت التي تسعى بعض الأطراف وسم الرجل بها، وخاصة لقب ''الديكتاتور''، فيقول إن الديكتاتورية ليست الجانب القدحي، ففي الحضارة الرومانية القديمة كانت تعطى مطلق الصلاحيات لشخص حتى يدير أمورها، وما حصل مع بومدين أنه أعطي كل الصلاحيات في مرحلة قريبة من مرحلة وصفها ب''إقلاع الطائرة''، وما حصل فيها من حزم كان من متطلبات ''الإقلاع''، ثم يأخذ الركاب حريتهم بعد ذلك، يضيف ''عشت مع الرئيس الكثير من الأوقات والأحداث، لكنه أبدا لم يكن ''ديكتاتورا'' كما يصفه البعض، لم يأخذ قرارا إلا واستشار فيه مقربيه، حتى الولاة ورؤساء البلديات''. وتحدى المتحدث هؤلاء قائلا ''فليعطونا فقط الدليل، وأنا سأصفق معهم، كان مبلغ همه إسعاد عامة الناس''. تذكر محدثنا في هذا السياق حادثة وقعت مع الرئيس الراحل في إحدى جولاته، حيث صادف شخصا يأخذ الماء من الأرض، ثم يقوم بتصفيته بمنديل ليشربه، فهزه المنظر، وقال لمن معه ''ألأجل هذا كنت أعمل؟''.
أكتب المذكرات حتى لا أنعت ب''الخائن'' جاءت رغبة مستشار الرئيس في كتابة المذكرات، منذ سنوات، في عدد من الصحف اليومية، من باب رد الجميل، لأن الشخص الذي يعاصر شخصيات ولا يعطي صورة عن تلك الفترة يعتبر ''خائنا''، كون تلك المرحلة قدمت له الكثير من جانب التعرف على شخصيات محلية ودولية وتعلم فيها الكثير، كما أن ما يكتب تارة يتنوع بين الشهادة والتأريخ لتلك الفترة. ويحرص عميمور على تقديم مادته تلك في حياة الكثيرين ممن عاصروا الرئيس الراحل هواري بومدين، وحتى يحفظ الكثير من المصداقية لما يقدمه، وألا يتهم فيما بعد بتزوير الحقائق، يقول ''دوري هو الإدلاء بشهادتي، وعلى المؤرخين التأويل والمطابقة والتحليل، والتأكد من صدق ما أكتبه، ويعتبر المثل المصري ''امشي عدل يحتار عدوك فيك'' مبدئي في الحياة''. سألنا الدكتور عميمور عن ثنائية متنافرة جمع ما بينها الرئيس الراحل والمتمثلة في ''البرنوس'' و''السيجار الكوبي''، فقال إن ''لا مجال للتنافر بينهما، فالبرنوس يعبّر عن التزام بلباس جزائري، وتمنيت لو أن الدولة فرضت على كل المسؤولين ارتداءه كما هو حاصل ببعض الدول العربية التي لم تتنكر لزيها التقليدي، وموضوع السيجار فهو متعلق بهدية صديقه فيدال كاسترو، وهو على الأقل أقل ضررا من باقي أنواع السجائر، ولا أرى فيهما مانعا، فبومدين حاول دائما الجمع بين طرفي الأصالة والمعاصرة''.
حلم ''الإمبراطورية الإدريسية'' لازم المغاربة.. وبوخروبة كان يناضل لعدم تفوقهم على الجزائريين تطرقنا بمعية الدكتور محي الدين عميمور إلى مشكلة الحدود مع المغرب، فأكد أنه تحدث عنها في كتابه ''التجربة والجذور''، ليبرز أن هواري بومدين لم يرقه، خلال فترة توليه الحكم، أن يتفوق المغاربة على الجزائريين حتى في تعداد السكان، باعتبار أن عدد المغاربة كان ثلاث عشرة مليون، والجزائريين تسعة ملايين. واصل الدكتور حديثه ''ووُضعت لذلك شروطا تتعلق بإشكالية الحدود الموروثة، التي طرحت عند الاستقلال بحدة، والتي يتوجب احترامها، وتفادي اتجاهات التوسع، وعدم الاستعانة بقوة أجنبية، مع العمل على خلق تكامل اقتصادي، وهذا ما يتناغم، حسبه، مع بيان ''أول نوفمبر''، غير أن حلم ''الإمبراطورية الإدريسية''، الذي ظل يطاردهم جعلهم يطالبون بضم موريتانيا ومالي وجزء من الجزائر، هذه الأخيرة التي أرجعتهم إلى ما تضمنته المواثيق الدولية التي تحتم عليهم احترام الحدود. لو كل دولة كانت لها أطماعا توسعية كالتي يتمتع بها ''المغاربة'' لتحولت ''إفريقيا'' إلى قنابل متفجرة، والجزائر حاربت على حدودها الحالية، وهو ما يناقض طرحهم، لأنهم تحدثوا عن شيء وقع فيه استفتاء سابقا، وصوتت هذه المناطق من أجل دولة جزائرية واحدة، وتحت علم واحد، وانتهى الأمر''.