وضعنا صعب وننتظر من الجزائريين الدعم المعنوي لم أكن مع تدخل الناتو في ليبيا وأنا ضد التدخل في سوريا - أنا صديق لفرنسا ولست تابعا لها قبل لقاء الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، مساء يوم الأربعاء، قررت قياس نبض الشارع التونسي، فتوجهت من قرية قمارت السياحية، حيث أقمت، إلى وسط البلاد، وأمام وزارة الداخلية أنزلنا سائق سيارة الأجرة. المبنى محاط بالأسلاك الشائكة وتحاصره آليات الجيش، إنها الصورة الوحيدة التي تذكرك بأن هذا البلد عاش أحداثا جسيمة أسقط فيها الشعب نظاما وأنتج في أقل من سنة البدايات الأولى لنظام جديد مبني على الديمقراطية واحترام خيارات الناخبين والمشاركة.. على امتداد شارع بورفيبة الشهير وصولا إلى السويقة، تبدو الحياة عادية جدا، محلات مفتوحة وحركة طبيعية، شرفات المقاهي مملوءة، مع بعض التوابل التي تمنحك الإحساس بأن الحياة في تونس صار لها طعم آخر، الشعارات التي تغطي الجدران: ''تحيا تونس حرة ديمقراطية''.. ''مبروك عليك المرزوقي يا تونس''.. ''تحيا ثورة الحرية والكرامة''. وصوت ترتيل القرآن في عدد من محلات السويقة التي توجه بعضها إلى بيع الخمارات والحجابات، وأكشاك تزينت بالأعلام التونسية وضاقت بالعناوين الصحفية الكثيرة التي صدرت بعد الثورة.. الموعد مع الرئيس المنصف المرزوقي كان على الساعة الرابعة مساء، وصلنا قبلها بنصف ساعة إلى قصر قرطاج، الذي لم نلاحظ فيه إجراءات أمنية خاصة، وحيث ذكرنا السائق ساخرا: ''هنا كانت حومة بن علي''، وبعد ارتشاف الشاي في قاعة الاستقبال التحق بنا المستشار أيوب الذي اطمأن على انتهائنا من الاستعداد للقاء قبل أن يستأذننا في الانصراف، ثم عاد ليدعونا إلى مرافقته لصالون مكتب الرئيس، ولم ننتظر طويلا حتى دخل علينا السيد المنصف المرزوقي الذي أشعرنا منذ البداية بأن تونس تعيش ثقافة جديدة وسلوكا غير معهود، فرئيسها لا يرتدي ربطة العنق ولا يطلب مسبقا الاطلاع على أسئلة الصحفيين ولا يحدد الوقت المخصص لهم ولا يستقبلهم وسط الهالة والهيلمان، ويرفض أن ينادى ب''صاحب الفخامة''، لأنه يعتقد أن ''الفخامة للشعب وحده''.. ولأجل ذلك جاء لقاء ''الخبر'' حميميا وخاليا من البروتوكول مع الذي يجلس اليوم على كرسي جلاده بالأمس. يحتفل الشعب التونسي بالذكرى الأولى لثورة العزة والكرامة.. كيف تقيّمون العلاقات مع الجزائر بعد سقوط نظام بن علي؟ - العلاقات بين الجزائروتونس لا يمكن أن توصف إلا بالعضوية. فالجزائر حاضرة بقوة في تونس بكيفية ربما لا يعرفها الجزائريون، أنا مثلا أتذكر قيام الثورة الجزائرية، وكان عمري 11 سنة، وكيف كان التونسيون يعيشونها يوما بيوم، يتابعون أخبارها وإنجازاتها بالكثير من الاعتزاز والافتخار، بعدها جاءت فترة الستينات والسبعينات التي عشناها بكل اهتمام انطلاقا من أن الجزائر كانت حينها الثورة الصاعدة والنموذج، بعدها ولما عرفت الجزائر الحرب الأهلية عشناها كمأساة تونسية، وأنا شخصيا كنت على علاقة مع صديقين جزائريين أكن لهما كل الود والتقدير، افتقدتهما خلال تلك الحرب، هما الدكتور محفوظ بوسبسي، الذي تعرفت عليه هنا في قصر قرطاج عندما تسلمنا جائزة بورفيبة في الطب، والدكتور يوسف فتح الله الذي تعرفت عليه عندما كنا نرأس رابطتي حقوق الإنسان في الجزائروتونس، والذي توفي وأنا في السجن ولما وصلني خبر رحيله بكيت كثيرا. أعود فأقول بأن علاقتنا بالجزائر حميمية جدا من قديم الزمان، ولهذا فإنني لن أبالغ إذا قلت إن الجزائر عندما تمرض تصاب تونس بالحمى، وأنا أعتبر بأن الثورة هي فرصة أيضا للعودة إلى هذه العلاقات الحميمية التي أفسدتها الدكتاتورية التونسية، ولا أخفيكم بأنني كنت أشعر بالأسى والغضب عندما كنت أسمع أخبار المعاملة السيئة التي كان يتلقاها الجزائريون في عهد بن علي، ونفس الغضب أشعر به عندما أعلم بأن 15 ألف جزائري مقيم في تونس يعانون من مشاكل في الاستقرار وفي معالجة أمورهم الإدارية، ولهذا طلبت من وزيري العدل والداخلية الإسراع في تسوية أوضاع هؤلاء. إذن فإن انهيار الدكتاتورية سيسمح للعلاقات بين البلدين بالعودة إلى مستواها الطبيعي، وزيارتي القريبة إلى الجزائر تدخل في هذا الإطار، وستكون في النصف الأول من شهر فيفري القادم. على ذكر زيارة الجزائر، اخترتم بأن تكون طرابلس أول عاصمة تزورونها بعد تعيينكم رئيسا للجمهورية، بينما اختار قبلكم الوزير الأول الأسبق باجي قايد السبسي وزعيم النهضة راشد الغنوشي الجزائر كأول محطة.. هل هو اختلاف في تقدير الأولويات؟ - زيارتي الأولى كانت لليبيا بسبب ظروف آنية حتمتها الأوضاع الأمنية والاقتصادية بين طرابلسوتونس، ثم أنه لا مجال للمفاضلة بين دول المغرب العربي، فليس من العقل التفريق بين أصابع اليد الواحدة، لكن المنطق يقول إن الأولوية يجب أن تمنح دائما للأصبع المصاب، وفي حالتي فإن الأصبع الليبي هو المجروح، فهناك الكثير من المشاكل الحارقة التي استوجبت منا المسارعة لمحاولة حلها. موقف الجزائر من الثورة التونسية كان صائبا البعض لام الجزائر على عدم تدخلها أيام الثورة التونسية، والبعض فسّر حيادها على أنه دعم لنظام بن علي.. أنتم الثائر بالأمس ورئيس الدولة اليوم، كيف تقيّمون هذا الموقف؟ - أعتقد أن أحسن موقف تنتجه الدول المجاورة لشعب يفجّر ثورة هو التزامها بعدم التدخل لا في اتجاه ولا في آخر، انطلاقا من حقيقة أن الشعب وحده يملك الحق في إعلان الثورة وفي تحديد مصيرها وبناء الدولة، وعليه فإنني أعتبر موقف الجزائر التي تركت الثورة في مجراها الطبيعي خيارا صائبا، وهذا ما ستفعله تونس التي لن تتدخل في مسارات الشعوب الأخرى، على اعتبار أن التدخل الأجنبي عادة يعطل المسارات الطبيعية للشعوب. أبدت الجزائر منذ البداية اهتماما كبيرا بالشعب التونسي وإرادة حقيقية لدعمه في هذه الظروف الصعبة.. ما الذي تنتظرونه اليوم من الجزائر؟ - أولا نحن ننتظر من الأشقاء في الجزائر الدعم المعنوي، لأننا في وضع صعب، ثم أن المناطق الحدودية بين البلدين هي من أفقر المناطق، وهذا المجال يمكن أن يشكل فرصة للتعاون الحقيقي، حتى نجعل من هذه المناطق مساحة للتقدم المشترك عبر برامج خاصة تسمح لنا بالتحرك وكأنها منطقة واحدة بين الجزائروتونس. وسيكون ذلك بداية لبناء المغرب العربي، وكما تعلمون فإنني متعلق كثيرا بفكرة إعادة إحياء هذا الفضاء، وأتمنى أن يقبل إخواننا الجزائريون بعقد قمة مغاربية في أقرب وقت، وأملنا كبير في أن تحتضن تونس هذه القمة، وسيشكل ذلك دفعا قويا لشعوبنا، لأنني أعتقد جازما بأن لا مستقبل لتونس في تونس وكذلك الأمر بالنسبة للجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا، مستقبلنا جميعا هو في الفضاء المغاربي. ولهذا فإننا ننتظر الكثير من الأشقاء الجزائريين خاصة وأننا مدركون بأن شيئا لا يمكن أن يتم في هذا المجال دون الجزائر. حلم جميل لكنه يبقى طوباويا في ظل استمرار الخلافات بين الجزائر والمغرب حول قضية الصحراء الغربية؟ - فعلا قضية الصحراء الغربية هي التي جمّدت المشروع، والآن علينا أن نحاول تجاوز هذه العقبة إذا لم ننجح في تسلقها.. القضية الآن موجودة عند الأممالمتحدة، فلِنحيّدْ الموضوع إذن ولِنمضِ في بناء الفضاء. وكأن الملف موضوع بين ظفرين، وأنا واثق بأننا يمكن أن نتجاوزها مرحليا، لندخل في مرحلة بناء الحريات الخمس: حرية التنقل وحرية الاستقرار وحرية العمل وحرية الاستثمار وحرية الانتخابات البلدية للمواطنين المغاربيين حيث يقيمون. وشيئا فشيئا ستتغير العقليات والمعطيات النفسية والسياسية، وآنذاك ستجد القضية حلا بصفة طبيعية. كان لتونس الفضل في تحريك عميلة الإصلاح في الفضاء العربي، ولم تشذ الجزائر عن القاعدة عندما أطلق الرئيس بوتفليقة مجموعة من الإجراءات لإصلاح الوضع السياسي.. من خلال تجربتكم، كيف تقيّمون هذا المسار؟ - كل الشعوب العربية وكل الأنظمة اليوم دخلت في حراك، نحن قمنا بالحراك وأوصلناه إلى مستقره بالنظر إلى طبيعة مجتمعنا، الذي يتميز بخصائص موضوعية، فنحن 11 مليون ولا نعاني تجاذبات دينية أو طائفية، وتعوّدنا منذ القديم على الحوار، كل هذه الظروف مكنتنا من انتقال سلس نحو الديمقراطية، إذن فلكل بلد ظروفه وخصائصه، لذلك فإنني أقدّر الصعوبات التي قد تواجهها الجزائر، وأنا مقتنع تماما بأن أشقاءنا في الجزائر أطلقوا هذا الحراك وسيصلون به إلى نقطة توازن. هذا ما أتمناه، لأن الشعب الجزائري دفع ثمنا باهظا في التسعينات وهو يحاول إيجاد توازنات جديدة. آن للعلاقات الاستعمارية أن تنتهي في العقول وفي القلوب صدمتم بعض الفرنسيين عندما قلتم في حوار مع ''لوجورنال دو ديمانش'' إن الفرنسيين هم غالبا الأقل فهما للعالم العربي.. ما هي في اعتقادكم الحالة المثلى التي يجب أن تكون عليها العلاقة بين فرنسا ودول المغرب العربي، وبالخصوص مستعمراتها السابقة؟ - ثقافتي فرنسية وعشت في فرنسا وأعرف الفرنسيين الذين قلت لهم إنني لست معاديا لفرنسا، بل أعتبر نفسي صديقا لها، لكن هناك فرقا بين أن تكون صديقا وبين أن تكون تابعا، نحن مع فرنسا نريد الصداقة دون التبعية، نريد الندية التامة، وأعتبر هذا حقا من حقوقنا، لأن العلاقات الاستعمارية انتهت ويجب أن تنتهي في العقول وفي القلوب. وعندما زار وزير خارجية فرنسا آلان جوبي تونس قال نفس الكلام، وهو ما يثبت بأن فكرة الندية بدأت تأخذ مكانها. لكن علينا ألا نخطئ، فتونس لا تستطيع تطوير علاقات ندية مع فرنسا نظرا لغياب التوازن بين البلدين، لكن بالمغرب العربي يصبح ذلك ممكنا ليس مع فرنسا فقط ولكن مع أوروبا أيضا. يمكن للبعض أن يتهموكم بالتناقض حين تتحدثون عن الندية، ثم تصنفون أنفسكم ك''فرنكوفوني'' و''فرنكوفيلي''؟ - نعم أنا صديق للفرنسيين، فأنا عشت بينهم وتزوجت منهم، لكنني كنت دائما معتزا بهويتي العربية والإسلامية، وأنا لم أحاول أبدا الاندماج في الثقافة الفرنسية، مع الامتنان لهذه الثقافة التي أخذت منها الكثير. وأعود فأقول إنه ليس من الضروري أن تختار بين أن تكون عدوا للآخرين وبين أن تكون تابعا لهم، أنا أفضل أن أكون صديقا للآخر، لكن مع تشبثي بمقوماتي ومع فرض الاحترام عليه. الثورة السورية تطيّفت وتشرذمت وتسلحت حذرتم أخيرا من أي تدخل أجنبي في سوريا.. كيف تقارنون بين هذا التدخل المحتمل وبين تدخل الناتو في ليبيا؟ - بكل وضوح وصراحة أنا لم أكن مع تدخل الناتو في ليبيا، جمعني نقاش صعب حول هذا الموضوع مع برنار هنري ليفي في إحدى الإذاعات الفرنسية، حينها قلت له إننا لا نريد التدخل، ونريد أن تبقى الثورة الليبية أصيلة وسلمية، فقال لي: أعطني الحل إذن لهؤلاء الأبرياء الذين يقتلهم القذافي. وعليه أقول إن الوضع في ليبيا كان صعبا جدا ولم نقبل التدخل إلا بعد أن صارت الأمور لا تطاق، وكان ذلك دون أدنى قناعة، عملا بالمثل التونسي الذي يقول: ''لا يدفعك للمر إلا الأمر منه''. أما في سوريا، فنحن التونسيين، ضد أي تدخل أجنبي مهما كانت صفته، بسبب أن الوضع في هذا البلد هو أعقد بكثير منه في ليبيا، وإذا تدخلت أي قوة فهذا يعني اندلاع الحرب في كل المنطقة، ما سيفتح المجال لتدخل الجميع، تركيا وإسرائيل وإيران وحزب الله، ما يعني انفجار سوريا ومعها كل المنطقة، وعليه يصبح الأمر عملية انتحارية. وأعتقد أن الأطراف الخارجية تفهم هذا الأمر، ولهذا فإنني أتصور أن شبح التدخل الأجنبي في سوريا نظري. من خلال تجربتكم، كيف تقيّمون أداء المعارضة السورية؟ - أنا قلق جدا على الثورة السورية، لأنها تطيّفت وتسلحت وتشرذمت، وهنا يكمن الخطر الأكبر، وهذا ما قلته لأصدقائي السوريين، فبرهان غليون، رئيس المجلس الوطني، صديقي منذ عشرين سنة، وهيثم مناع، الذي يرأس التنسيقية، صديق شخصي أيضا، التقيت الاثنين هنا في تونس وطلبت منهما الاجتماع في محاولة للوصول إلى جبهة وطنية تعيد الثورة السورية إلى مسارها الطبيعي، وهو ألا تكون طائفية، وأن تكون سلمية وبعيدة عن أي تدخل خارجي، تنسقها قيادة موحدة تعطي أفقا للشعب السوري، أما إذا استمر التشرذم والتطيّف والتسلح، فإن الثورة السورية ستفشل، وهذه مأساة. أبو مازن اعتذر عن زيارة تونس ولم يرفضها ما تعليكم على إعلان الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، رفضه زيارة تونس بعد الدعوة التي وجهتموها إليه؟ - هو لم يكن رفضا بل اعتذار، نحن استقبلنا الأخ إسماعيل هنية وأردنا استقبال الرئيس محمود عباس، انطلاقا من إرادتنا في التعامل مع كل الأطراف مع عدم التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني، ولذلك جاء تأكيدنا للأخ هنية على أهمية المصالحة الوطنية، ودعوتنا للأخ أبو مازن هي دعوة قلبية، وهو لم يرفض تلبيتها ولكنه اعتذر لظروف خاصة به. هذا يعني أنكم تصرون على عدم اعتبار استقبالكم لإسماعيل هنية قبل محمود عباس خطأ دبلوماسيا. - هي مسألة مرتبطة بالظروف، فإسماعيل هنية كان في سفر، فطلب اللقاء معنا وقبِلنا، ومن خلال استقبالنا له أردنا تكريم غزة، على اعتبار الوضع الصعب الذي تعيشه، ورسالة نجدد عبرها تعاطفنا مع شعب غزة المحاصر.. وكما ترون ليس في الأمر تفضيل لطرف على طرف. وجه لكم السيد هنية دعوة لزيارة غزة.. هل ستلبونها؟ - شعبنا في غزة قاسى الأمرّين، فقد حوصر وجوّع وهمّش ويجب دعمه بكل الوسائل، وهو ما أعتبره واجبا وطنيا، وإذا سنحت لي الفرصة فإنني لن أتردد في زيارة غزة زيادة في الدعم والمساندة دون الدخول في أي خصومة فلسطينية فلسطينية. على الرغم من صغر حجمها الجغرافي والديمغرافي، إلا أن تونس كانت في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات في مركز التفاعلات العربية، فاحتضنت قيادة الثورة الفلسطينية، ومقر جامعة الدول العربية... - وقبلها استقبلت الثوار الجزائريين ومقر الحكومة المؤقتة الجزائرية.. فعلا.. كيف ستعملون لإعادة تونس إلى واجهة الفعل العربي بعد عقدين من الغياب والتلاشي؟ - تلاشي تونس خلال فترة حكم بن علي كان نتيجة رداءة هذا الشخص ونظامه، الذي دمّر كل المؤسسات، ومن ذلك سياستنا الخارجية، ولهذا كنت دائما أقول إن تونس في تلك المرحلة لم يكن لها وزارة خارجية ولكن وزارة داخلية في الخارج، فسفاراتنا في الخارج لم يكن دورها إشعاع تونس، ولكن مراقبة مواطنينا والترويج لبن علي، إذن هذه فترة ضاعت من عمر تونس، والآن هي تعود إلى دورها بفضل الثورة. أرجع البعض تصريحاتكم الأخيرة حول الجزائر، وتعاطيكم مع الشأن الفلسطيني، ودعوتكم إلى الوحدة مع ليبيا، إلى نقص الخبرة.. هل الأمر كذلك، أم أنكم تبحثون عن إنتاج خطاب جديد يقف على نقيض لغة الخشب التي تعوّد عليها الرأي العام؟ - لدي الآن 30 سنة في العمل السياسي، قد يقال إن ذلك لا علاقة له بخبرة الدولة، فأقول ما الذي استفاده بن علي من هذه الخبرة. أنا أعتقد إن الخبرة الحقيقية هي في وضع القيم التي نؤمن بها قيد التنفيذ. وقد يقال إن رجل الدولة عليه أن يتكلم لغة دبلوماسية حذرة، وهنا أؤكد بأنك لن تستطيع منع أحد من تشويه كلماتك، وما أعيب عليّ في هذا الموضوع جاء تعليقا على كلمات لم تقل، ومن ذلك ما يتعلق بالوحدة مع ليبيا، فأنا لم أصرح بشيء في هذا الاتجاه لأنني ببساطة لا أؤمن بالاندماجية على طريقة عبد الناصر والقذافي. كما أنني ذهلت عندما نقلوا على لساني بأن الناس أقبلوا على الإسلاميين لأن الإسلام هو الحل، هي جملة مختلقة، وعكس ذلك أنا كتبت مقالا تجدونه على صفحة ''الجزيرة نت'' أقول فيه ''لا حل في شعار الإسلام هو الحل''، وبين قوسين، هذا الشعار تركه حتى أهله فلم يعد ''الإخوان المسلمين'' يرددونه، ونفس الشيء بالنسبة لتصريحي الذي فسر على أنه تدخل في الشؤون الداخلية الجزائرية وهو أيضا حملة مغرضة ولا أساس له من الصحة. أما ما يعزى إلي من نقص في الخبرة فهو إساءة مقصودة من بعض الصحف التونسية. كيف تقيّمون الوضع الذي تعيشه تونس أمنيا واقتصاديا في ظل استمرار الاعتصامات وتزايدها.. وهل تملكون حلولا للمشاكل التي يتخبط فيها التونسيون اليوم؟ - عندما تقوم بثورة هذا يعني انهيار عالم وقيام عالم جديد، ولا بد من وقت لتصفية التركة، ولا أدل على ذلك من الثورة الفرنسية التي قامت في 1789 وأخذت تقريبا 70 سنة لتحقق أهدافها، نحن على العكس من هذا وبحمد الله وجدنا التوازن السياسي بسرعة بعد انهيار النظام القديم، وذلك في أقل من عام، وهذا أمر غير مسبوق، ففي أقل من سنة أسقطنا الديكتاتورية وبنينا نظاما ديمقراطيا ونظمنا انتخابات حرة وناجحة بكل المقاييس وأسفرت عن حكومة ائتلاف وطني، وكل هذا بالنسبة لي معجزة. في المقابل ما زلنا نبحث عن التوازنات الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن لي كامل الثقة بأننا في ظرف 3 أو 4 سنوات سنصل إلى تحقيق هذا التوازن.. باختصار فإن تونس كلها تعيش حالة من الغليان الإيجابي، الكل فيها يعاد تشكيله، النظام الاقتصادي والقضائي والأمني وغيرها. بن علي طلب الدفتر المدرسي لابنه ووافقت كثر الحديث، هذه الأيام، عن خلافكم مع رئيس الحكومة، السيد حمادي الجبالي، حول ممارسة الصلاحيات.. خاصة ما تعلق بإدارة السياسة الخارجية لتونس.. ما تعليقكم؟ - توليت رئاسة الجمهورية منذ 30 يوما فقط، وفي هذه الفترة القصيرة التقيت رئيس الحكومة ثلاث مرات على الأقل، إضافة إلى أننا اتفقنا، ومعنا رئيس المجلس التأسيسي، السيد مصطفى بن جعفر، على اللقاء كل ثلاثاء لتناول العشاء، أمس مثلا التقينا (الحوار أجري يوم الأربعاء) مطولا. ودعني أخبرك بأن هذا الثلاثي الذي يحكم تونس يتميز بخاصيتين، فنحن الثلاثة كنا ضحايا بن علي وأصدقاء نعرف بعضنا منذ 30 سنة، نتعارف جيدا ونحترم بعضنا، وعندما تحدث خلافات نعرف كيف نحلها، في لقاء الأمس مثلا اختلفنا حول الموقف من الملف السوري، وحول الملف الأمني، تبادلنا الآراء وقربنا وجهات النظر، وعليه فإنني أؤكد لكم بأن كل ما يشاع حول هذه الخلافات لا أساس له من الصحة، نحن وصلنا إلى تحالف ثلاثي صلب ومتين، والالتزام بما تعاهدنا عليه هو قضية ''رجولية''، إلى غاية إيصال البلاد إلى الانتخابات المقبلة، وصدقني حين أقول لك إنك لن تجد ثلاثيا متوافقا مثل الثلاثي الذي يحكم تونس اليوم. ما ردكم على من يتهمكم بالتخلي عن مواقفكم اليسارية عندما قررتم التحالف مع الإسلاميين؟ - عقدنا الاتفاق لأننا لم نكن نملك خيارا آخر، والعكس كان يعني ''حربا أهلية سياسية''، فلا يمكن أن يحكم الإسلاميون وحدهم، ولا يمكن ل''العلمانيين'' أن يحكموا وحدهم، وعندما جئنا للحديث في التحالف وضعنا أنا ومصطفى بن جعفر خطوطا حمراء، ويتعلق الأمر بحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة والتداول على السلطة والتوزيع العادل للثروات، وهي كما ترون المبادئ التي ناضلنا من أجلها. الإخوة في النهضة لم يروا في ذلك أي مشكل، ووضعوا هم أيضا خطوطا حمراء تتعلق بالهوية العربية والإسلامية لتونس ولم نر مشكلا في ذلك، هذا يعني أن كل واحد طرح المبادئ التي لا تنازل عنها، انطلاقا من هذا جرى الاتفاق. لكن هل يمكن أن نتحدث عن هوية عربية إسلامية لتونس، دون الحديث عن فرض الحجاب ومنع الخمور وغيرها من مطالب بعض الإسلاميين؟ - لا تنس أننا تحدثنا عن الهوية في إطار احترام الحقوق والحريات، وهنا على الجميع التنازل، نحن شعب عربي مسلم لكننا نؤمن في نفس الوقت بالحقوق الفردية والجماعية، قلنا إننا لن نبني دولة دينية ولا دولة لائكية على الطريقة الفرنسية، بل نهدف إلى بناء الدولة المدنية، والدولة المدنية في مفهومي هي التي تحمي حق المنقبة وحق المرأة التي لا تلبس نقابا، حق من يؤمن وحق من لا يؤمن، وهو ما قبله الإسلاميون في تونس، يبقى أنه من البديهي أن نعترف بأن الإسلام دين الدولة وأن ندوّن ذلك في الدستور، لأن 99 بالمائة من الشعب التونسي مسلم، هي مجرد معاينة واعتراف بالواقع، وهذا لا يعني أن هذه الدولة لا تحمي حقوق اليهود، وأنت تعلم أنني، وفي الأسبوع الأول من تعييني، استقبلت كبير أحبار اليهود، كما استقبلت أسقف الكاثوليك، الدولة التي قررنا بناءها ستحمي حقوق الجميع مهما كانت دياناتهم، وهذا الأمر أيضا قبله الإسلاميون دون أدنى تحفظ. باستثناء طبعا من يسمون بالسلفيين وهؤلاء ليسوا في الائتلاف ولا دور لهم في قادة البلاد. ما مستقبل علاقات تونس بالسعودية في حال أصرّت الرياض على استضافة بن علي؟ - المملكة دولة عربية كبيرة وشقيقة، نحرص على أن تكون علاقتنا بها في حالة مثلى، لكننا في المقابل نأمل في أن يتفهم الإخوة في الرياض بأن مطالبتنا بتسليم بن علي هي حق مشروع للشعب التونسي، ذلك أن الإسلام لا يجيز إجارة الطغاة الذين حاربوا الدين وسفكوا الدماء، ثم إننا نريد من هذا الرجل أن يدلنا على أموال التونسيين المنهوبة، وبالمناسبة أخبركم بأن المستشار القانوني في الرئاسة أخبرني بأن الرئيس المخلوع طلب منا الحصول على الدفتر المدرسي الخاص بابنه، فوافقت، لأن الأمر يتعلق بقضية إنسانية، ولأن الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من عمره لا ذنب له فيما اقترف والده. البوليس كان يتبعني خوفا مني واليوم هو يتبعني خوفا علي ألا تخشون أن يخطف بريق السلطان بصركم؟ - هناك لعنة تلاحقني هي لعنة البوليس الذي كان يتبعني خوفا مني والآن يتبعني خوفا عليّ. أنا معك في أن التغيير كبير وهام جدا لكنني في المقابل أذكرك بأنني دخلت السجون وبت على الأرض وشربت من الماء النتن، وعليه فإنه لا تأثير لكل هذه البهرجة علي، وأعمل يوميا على مقاومة بريقها، أزور بيتي القديم مرة كل أسبوع وأنظر في حصيره البالي حتى لا أنسى المحيط الذي جئت منه، وأحرص أيضا على زيارة الأصدقاء كما كنت أفعل من قبل.. أحاول أقصى ما يمكن ألا أدمن على هذا الكرسي حتى إذا قررت يوما اعتزال السياسية فعلت دون صعوبة. وماذا بقي من المرزوقي المثقف داخل المرزوقي الرئيس؟ - لم يعد لدي الوقت للتعاطي مع شبكات التواصل الاجتماعي كما كنت أفعل من قبل، لكنني حريص على إبقاء هواية المطالعة حية. هل قرأتم أو أعدتم قراءة كتاب ''الأمير'' لميكيافيلي؟ - قرأته من قبل عدة مرات، هو عبارة عن نصائح للأمير، أما حلمي أنا هو أن أصدر كتابا أقدم فيه النصائح للشعب. المرزوقي يشيد بدور الصحافة الجزائرية التقت ''الخبر'' الدكتور المنصف المرزوقي سنة ,2000 بفضل الزميل سليمان حميش، بمدينة سوسة، حيث فرض عليه نظام بن علي الإقامة الجبرية، بعد سنوات من السجن والتعذيب، وتلتقيه اليوم وهو رئيس للجمهورية التونسية.. عقد كامل مضى على اللقاءين، لكن اعتراف المرزوقي بالدور الذي لعبته الصحافة الجزائرية في دعم نضال التونسيين من أجل الكرامة لم يتغير: ''لن أنسى ما قدمته لنا ''الخبر'' ومعها كل الصحافة الجزائرية في تلك السنوات الحارقة، فالإعلاميون الجزائريون كانوا يخوضون المخاطر من أجل الاجتماع بنا وإسماع صوتنا إلى العالم''. وعندما أهديناه القرص المضغوط الذي ضمنّاه صور لقاء ,2000 علق ضاحكا على صورة الغلاف: ''ما هذا الشعر المنكوش''، قبل أن يضيف ساخرا: ''بعضهم يتهمني بأنني اكتشفت البرنوس بعد تعييني رئيسا للجمهورية، هذه الصور تشهد بأنني قبل عشر سنوات كنت أرتدي البرنوس''.