لقد كانت الرحمة مَعلماً من معالم شخصية سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد جاء في القرآن الكريم بأنّ الله تبارك وتعالى أرسله رحمة للنّاس، فقال سبحانه: {وما أرسلناك إلاّ رَحمةً للعالمين} الأنبياء .107 لم تكن الرّحمة سِمة محدودة أو هامشية من سِمات سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، بل لقد بلغت قدراً من الأهمية، إلى درجة أنّه سمّي بذلك صلّى الله عليه وسلّم. فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُسمّي لنا نفسه أسماء فقال: ''أنا محمّد، وأحمد، والمُقَفَّي، والحاشر، ونبيُّ التوبة، ونبيُّ الرّحمة'' أخرجه مسلم. وحين نتأمّل سيرته وحياته صلّى الله عليه وسلّم، نجد الرّحمة بارزة في مواقفه كلّها، وفي تعامله مع النّاس جميعاً. ولم تكن الرّحمة منه صلّى الله عليه وسلّم قاصرة على مجرد استجابة عاطفية لموقف مؤثّر فحسب، فهذه سجية إنسانية قلّما يخلو منها بشر، حتّى القساة الغلاظ قد تبدو منهم الرّحمة في بعض المواقف المؤثّرة. ويشهد له مَن عرَف سيرته ودرسها بذلك، حيث يقول المستشرق الألماني برتلي سانت هيلر: ''إنّ في شخصية محمّد صفتين من أجلّ الصفات الّتي تحملها النّفس البشرية، وهما: العدالة والرّحمة''. ولابُدّ أنّك تعلم أنّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في صغره يتيماً، وفي شبابه فقيراً، وكان قبل بعثته لا يعرف الدِّين الّذي عليه أن يتّبعه. فنزلت الآيات القرآنية فيما بعد، تُبيِّن له أنّه لم يكن متروكاً لشأنه في مختلف مراحل حياته، بل كانت رعاية الله له هي الّتي تحفظه في كلّ ما ينوبه، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى × وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى × وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}. أي أنّ الله سبحانه هو الّذي آواه ويسَّر له مَن يكفله في صغره، وهو الّذي هداه إلى الدِّين الصّحيح الّذي عليه أن يتّبعه، وهو الّذي أغناه في فقره بالتجارة بأموال زوجته الأولى خديجة. وهكذا، كان نبيّ الرّحمة محمّداً قبل البعثة مثل غيره من الأنبياء، يصنعهم الله سبحانه على عينه. إنّ الإسلام هو دين الرّحمة فقط لا شيء غيرها، يقول الله تعالى في كتابه العزيز مخاطباً رسوله المصطفى محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومبيِّناً سبب إرساله إلى النّاس: {وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين} الأنبياء .107 ومعناه أنّ جميع ما جاء به سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم مُرسل من عند ربِّه، وجميع ما اشتملت عليه رسالته من عبادات ومعاملات وآداب وأخلاق وحقوق وواجبات، كلّ ذلك إنّما هو مبني على أساس الرّحمة للبشر كافة. بل حتّى العقوبات الشّرعية، من حدود وقصاص وتعزير، إنّما هي رحمة للبشر، لما فيها من قطع لدابر الشّرِّ، ومنع للفساد من أن يستشري في المجتمعات. بينما هو يستشري اليوم كما تعلَم، بسبب التّشريعات والقوانين الّتي وضعها المُشرِّعون من البشر بأنفسهم، منصرفين عمّا شرع الله سبحانه للنّاس كافة. وفي هذا السياق، يقول المستشرق هيدلي: ''لو أصبح كل فرد في الإمبراطورية الإنجليزية محمدياً حقيقياً بقلبه وروحه، لأصبحت إدارة الأحكام أسهل ممّا هي عليه، لأنّ النّاس عندئذ سيعملون بدين حقيقي''. لقد كان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلُّ النّاس أولاً على الطريق إلى الرّحمة، فيُعلّمهم أنّ التّواضع والرّفق هما سبيل الإنسان إليها، وقد رُوي عنه أنّه صلّى الله عليه وسلّم قال: ''إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتّى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد''. وكان صلّى الله عليه وسلّم يضرب للنّاس مثلاً من نفسه فيقول: ''إنّ الله جعلني عنداً كريماً ولم يجعلني جبّاراً عنيداً''. وكان صلّى الله عليه وسلّم يطلب من النّاس أن لا يبالغوا في أمره ويقول: ''يا أيُّها النّاس، لا ترفعوني فوق قدري، فإنّ الله اتّخذني عبداً قبل أن يتّخذني نبياً''.