تتميّز رؤية سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للرّحمة بأنّها شاملة لكلّ مخلوق حتّى أنّها تعدَّت البشر إلى الحيوانات والجمادات، وخرجت عن إطار المسلمين إلى غير المسلمين، لِيُدرك الجميع مدى العظمة النّبويّة والّتي تميّزت برحمة ظاهرة في بيئة شديدة القسوة! لقد كانت سيرة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثالاً يُحتذى في كلّ شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، وكانت مثالاً للمجتمعات الصغيرة والكبيرة، وكانت مثالاً واضحًا لبناء الأمم. لقد كان تغييرًا هائلاً ذلك الّذي أحدثه سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الدُّنيا، ولا شكّ أنّ دراسة تجربته وسيرته الطاهرة ليست أمرًا مُفَضَّلاً أو مُحبِّبًا فقط، ولكنّها أمر واجب على كلّ مسلم أراد النّجاة في الدُّنيا والآخرة، وأراد لأمَّته العزّة والكرامة والسيادة والريادة، بل إنّها ضرورية لغير المسلمين ممّن يعيشون في أرجاء المعمورة. لقد بُعِثَ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمّة مُفرَّقة، مُشتّتة، فَشَا فيها الظلم وتعدّدت فيها صور الباطل وكثرت فيها الآثام والشرور وتمكَّن فيها المتكبّرون والمتجبِّرون، فبدأ في أنَاةٍ عجيبة، يُغيّر الأوضاع ويُعدّل من المسار. ما ترك معروفًا إلاّ وأمر به، ولا منكرًا إلاّ ونهى عنه، ولم يكن طريقه ناعمًا، بل كان مليئًا بالصّعاب والأشواك، وعارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتّى حاربته عشيرته، وقاومه أهله، فما لاَنَت له قناة، وما فترت له عزيمة. فبنى أمّته بناءً راسخًا، وبِخُطى ثابتة ومنهج واضح، يستطيع كلّ صادق أراد لأمّته القيام أن يقتدي به، يقول عليه الصّلاة والسّلام: ''قد تركتُكم على المَحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك'' رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم من طريق العرباض بن سارية. وكان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثير المخالطة لأمّته دون تكبّر أو تعالٍ، فلم يعتزل عنهم أبدًا، بل كان يُجالس الفقراء، ويرحم المساكين، وتسير به الأمَة في شوارع المدينة أينما شاءت، وكان يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويخطب الجُمَع، ويعلِّم الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم، ويزورونه في بيته، وهو في كلّ ذلك دائم الابتسامة، منبسط، متهلّل الوجه. نعم.. كان رحيمًا بأمّته تمام الرّحمة، ما خيِّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكُن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد النّاس منه، وكان كثير العفو حتّى عمَّن ظلمه وبالغ في ظلمه، وكان واصلاً للرّحم، حتّى لمَن قطَع رحمه، وبالغ في القطع. إنّ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رحمة مُهداة إلى العالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الأنبياء: 107، وإنّ الرسالة المحمدية في أصلها وطبيعتها رحمة بالنّاس أجمعين، وقد قال عليه الصّلاة والسّلام: ''مَن لا يَرحَم لا يُرحَم'' رواه أبو داود والترمذي وأحمد، حيث ظهرت الرّحمة في كلّ أقوال وأعمال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم تكن رحمة متكلّفة، وإنّما كانت طبيعية تلقائية رغم اختلاف الظروف وتعدّد المناسبات. ورأيناها مع الكبار والصغار، ورأيناها مع الرجال والنساء، ورأيناها مع القريب والبعيد، بل ورأيناها مع الصديق والعدو، بل إنّ رحمته صلّى الله عليه وسلّم تجاوزت البشر لتصل إلى الدواب والأنعام وإلى الطير والحشرات، وشملت أيضًا ما لا روح فيه كتعاطفه عليه الصّلاة والسّلام مع جبل أُحُد. هذه هي رسالة الإسلام في حقيقتها، وهذا هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حقيقته.. صلُّوا عليه وسَلِّموا تسليمًا.