التمر ونبيذ معسكر والبرنوس والقفطان والحلي التقليدية أبرز الهدايا يُخيم ظل الذاكرة دائما على أي زيارة رسمية لرؤساء فرنسا، سواء في طابع الهدايا التي يتبادلها الطرفان وهي تحمل دائما بصمة تاريخية، الأماكن والمدن المبرمجة للزيارة، الكلام ''المشفر'' بين الرؤساء، وحنين القادمين من الضفة الأخرى لمستعمرتهم القديمة. قصص وخلفيات وحسب شهود عيان على بعض هذه الزيارات، فإن إعدادها لا يخلو من الإثارة والحيلة في كثير من الأحيان، إذ يسعى فريق كل طرف، الضيف والمستضيف، على كسب نقاط من هكذا أحداث ومناسبات، إن في الجانب السياسي أو في غيره. ولما كانت العلاقة بين الجزائر وباريس تكتسي خصوصية خاصة، فإن تحضيرها يشبه إلى حد بعيد لعبة القط والفأر أو شد الحبل. وفي هذا الصدد، يذكر الدكتور محيى الدين عميمور، المستشار الإعلامي السابق للرئيسين الراحلين بومدين وبن جديد، أنه حضر الإعداد لزيارات الرئيسين الفرنسيين فاليري جيسكار ديستان والراحل فرانسوا متيران، وأن كل مرحلة من التحضيرات كانت تجري بدقة لا تسامح فيها. كان الهدف هو مرور الزيارة بسلام وعدم إغضاب الضيف مهما بلغت ''سقطاته''، بدءا من اختيار اللافتات الترحيبية والشعارات التي ترفع، وحتى الأهازيج الجماهيرية التي كثيرا ما كانت تؤرق البروتوكول مخافة من أن توصف الزيارة بإساءة. وكمثال على ذلك، يروي عميمور ل''الخبر'' موقف جيسكار ديستان الذي كانت زيارته للجزائر فاشلة وأثّرت كثيرا على موقف بومدين من فرنسا فيما بعد.. فقد كان أول رئيس فرنسي يزور الجزائر في زيارة رسمية سنة 1975 وكان جرح الماضي القريب لا يزال مفتوحا لم يندمل بعد. كما أن فرنسا بعد نهاية أسطورة الجزائر الفرنسية، وهو ما ترجمه سيّد الإيليزي حين قال في خطابه ''فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة''. سيارة ألمانية وليس فرنسية أول ما صدم به الرئيس جيسكار ديستان وهو يخرج من القاعة الشرفية بمطار الدارالبيضاء آنذاك /هواري بومدين الدولي حاليا/ هو نوع السيارة التي ركبها برفقة بومدين، حيث لم تكن تلك المعتاد أن يستقلها هذا الأخير في حله وترحاله داخل الوطن ولدى استقباله لضيوفه الأجانب.. ففي ذلك اليوم استبدل الفريق الرئاسي، وبموافقة بومدين بطبيعة الحال، السيارة الفرنسية ''سيتروان'' الشهيرة بسيارة مرسيدس الألمانية. وكانت القيادة الجزائرية آنذاك أرادت توجيه رسالة سياسية مشفّرة وقوية في آن واحد للضيف الفرنسي، على أن الجزائر لن تكون تابعة لباريس أبدا وتفضّل غيرها في التعاون والعمل المشترك. كما اهتدى الفريق الرئاسي إلى حيلة استبعاد الأعلام الوطنية للبلدين، واستبدلها بأعلام ملونة، تفاديا لوقوع طوارئ تسيء الى الزيارة، كأن تتعرض للإهانة أو التمزيق لدى مرور الموكب الرئاسي أو شيء من هذا القبيل، فيتم استغلاله لإفشال الزيارة. محور فرنسي جزائري ولم تكن زيارة جيسكار ديستان مثلا خالية من الأهداف بالنسبة للرئيس بومدين.. حيث أراد أن تكون بداية لصفحة جديدة، وإشارة قوية للرغبة في بناء علاقات حيوية تقوم على التعاون، وإقامة محور إفريقي آسيوي فرنسي يخلص العالم من الثنائية القطبية بين السوفيات وأمريكا آنذاك. فبذل بومدين كل ما استطاع من أجل نجاح الزيارة. ومن النوادر التي حدثت،وظلت طي الكتمان لدى المؤرخين، لماذا زار جيسكار ديستان مدينة سكيكدة وليس قسنطينة، مثلما كان يطمح هو. فالفريق الرئاسي هو من فرض زيارة سكيكدة، على اعتبار أنها تعرضت لأبشع المجازر إبان ثورة التحرير، في سنة 1955، على يد الاستعمار الفرنسي، عسى أن يستغل المناسبة للوقوف على حقائق الأرض وليس أباطيل المؤرخين، وزبانية قادة الاحتلال. غير أن جيسكار ديستان لم يكن بهذا المستوى من التوقعات، فارتكب خطأ جسيما عندما وقف وخطب قائلا إن فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة، وهو ما اعتبر حكما بفشل الزيارة لم يتمكن بومدين من استدراكه. وما زاد في غضب الجزائريين إقدام جيسكار ديستان، عندما عاد إلى بلاده، على إطلاق اسم ''يوغرطة'' على كلبه، وللتاريخ فقد أثار هذا التصرف سخط واستياء كبار المسؤولين آنذاك، وفي مقدمتهم الراحل مولود قاسم نايت بلقاسم، الذي يحمل ابنه هذا الاسم. ومن النوادر، أيضا، أن الرئيس بومدين أمر بتزيين مائدة مأدبة العشاء التي أقامها لضيفه بزهور ''أنيمون''، الذي هو نفس اسم زوجة جيسكار ديستان كدليل على الاحترام والاهتمام بكافة التفاصيل، غير أن الرئيس الفرنسي وخلال عشاء الرد الذي أقامه على شرف بومدين بقصر الشعب، قام بخلط البروتوكول، مبعدا مستشاريه إلى الصفوف الأخيرة ومقربا جزائريين مزدوجي الجنسية وآخرين يعملون بالسفارة الفرنسية، ما دفع بعميمور وحاج يعلى وعبد الملك كركب إلى الانسحاب لولا تدخل عبد المجيد علاهم ! ميتران وقبر بومدين ولم تكن زيارة ميتران بأفضل من سابقه، باستثناء حرصه على زيارة ضريح الرئيس بومدين بمقبرة العالية، ووضعه أكليلا من الزهور عليه.. في إشارة إلى مسح أخطاء جيسكار ديستان. ومع ذلك، فإن الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد رفض أن تكون أول زيارة له خارج الوطن إلى فرنسا، رغم إصرار ميتران على ذلك، حيث تنقل إلى بلجيكا بدل باريس، وقبل زيارتها خطب بن جديد قائلا: ''الجزائر قلبت الصفحة ولم تمزقها''، ردا على خطاب جيسكار ديستان في سكيكدة. ومن النوادر كذلك، إصرار بن جديد على الحديث بالعربية في المقابلة الصحفية التي أجرتها معه التلفزة الفرنسية الحكومية، مع اشتراط دبلجتها، وليس ترجمتها بالصوت إلى الفرنسية.