لم أتوقّف عن الحديث بأن التدافع هو الذي يصنع الحياة، وهو الذي يمنع الفساد، وهو الذي يُؤمِّن الحاضر ويضمن المستقبل. لا زلت أقول بأنه لا يوجد في الدنيا إمكان للإصلاح بلا رأي ورأي مخالف، وإرادة وإرادة مناقضة، ومصلحة ومصلحة مختلفة، وفكرة وفكرة مغايرة. لم أيأس من إدانة السكوت، خوفا من جبار أو طمعا في راش.. لم أزل أحذّر من هيمنة مُمَّكن، وسيطرةِ قادرٍ وتعسفِ قويٍّ. لست أزعم أنني اكتشفت علما جديدا أو حكمة عزيزة أو فنا غير مسبوق. إنه علمٌ إلهي لم ننتفع به، وحكمةٌ علوية لم نعها. إنه قول الله تعالى: ''ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض''. كنت دائماً أقول كيف اكتشف الغرب الديمقراطية فحلّ بها مشاكله، وبقيت أمّتنا تتخبّط في أنواع الدكتاتوريات، وبين أيديها قواعد أسمى وأرقى لتنظيم شأنها وإدارة خلافاتها. مثّلت لي الثورات العربية فرصة عظيمة لانعتاق العرب، غير أنني بقيت أخاف عليها من الكائدين الذين يروقهم استمرار الوضع البائس. فجاءت محنة الإعلان الدستوري في مصر فأكّدت أن الطريق صعب ومحفوف بالمخاطر. إنها لمشاهد أسطورية تلك التي نشاهدها في مصر هذه الأيام. رئيس منتخب يجد نفسه وحده في نظام بني عبر العقود على الاستبداد والمؤامرة، ووسط واقع دولي يتربّص به ويسبر أغواره: إلى أين يمكن أن يذهب؟ وماذا يمكن أن يعطي؟ وماذا يمكن أن يأخذ؟ حرب باردة وساخنة على حدود بلده في غزة وعلى جنوبه في السودان، وفقراء ينتظرون الرغيف، وشباب يريدون الحياة، وتجار ينتظرون الكسب، وفلول يسكنون الديار، وأحزاب تريد أن تقوى وتكبر، وحالمون يريدون عهد الراشدين فورا، ومكلومون في الثورة يريدون القصاص. وحينما أراد أن يأخذ الصلاحيات كاملة، ولو إلى حين، حتى يعتق الدستور فتنطلق العملية السياسية وتتحرّك الوتيرة الاقتصادية، إذا بالدنيا تقوم عليه ولم تقعد. يخطئ من يعتقد بأن تعاطفي مع مرسي، كرئيس شرعي منتخب، يجعلني ألعن خصومه وأتمنّى الفتك بهم. أنا أعلم أن جهات كثيرة تتربّص بمرسي وحزبه ومشروعه، من فلولٍ وشبكاتِ فساد وعملاء الاستكبار الغربي، وصهاينةٍ، وأعرابٍ ''مرفِّحين'' حاقدين. لا يخفى عليّ ذلك، ولكن ليس هؤلاء من أكترث بهم، فما حراكهم إلا كتخبّط عجل سمين لم يُنحر سوية، ولكنه ذاهب حتما لحتفه، فالزمان قد استدار ولن تعود الأمّة العربية على أدراجها وقد انطلقت آلام ولادة نهضتها من جديد، بعد أن تحرّرت من الخوف وسكون العجز الطويل. على العكس من ذلك أعتبر أن هذا الحراك هو ضمانة تأسيس ديمقراطية عربية عميقة الجذور. فهؤلاء المعارضون، مهما كانت نواياهم، ولا شك أن فيهم وطنيين صادقين، يؤكّدون لمرسي، ولكل الإسلاميين، بأنهم لن يستأثروا بمصر، مهما كان نبلهم ومقاصدهم وتاريخهم، وأن زمن الأحادية قد ولّى، وأن مصر ستنهض بتنوّعها وتدافع الأفكار والرؤى والمصالح والثقافات الموجودة فيها. ولا يخيفني احتدام الصراع في شوارع القاهرة وغيرها، فالإخوان ومعهم الإسلاميون أقوى من أن تستبيحهم المعارضة، وإن حُرقت مقرّاتهم وقُتل بعضهم، والطبيعة المصرية، مهما تطرّفت، ليست حدية ولن تصل إلى وضع منفلت، كما إن قوة المجتمع المدني في مصر، وعراقة القضاء في مجمله، ومستوى نخبه من كل التيارات، ستجد الطريق الآمن بعد الاستفتاء على الدستور مهما كانت نتيجته. وسيخرج الجميع إلى فضاء ديمقراطي تعدّدي حقيقي تتنافس فيه الأحزاب على البرامج والأفكار التنموية، لتكون مصر دولة عربية ناهضة وحرة وعادلة تعتمد على مواردها البشرية التي تحرّكها المنافسة الحرة والتداول السلمي لتحقيق التنمية الاقتصادية، رغم شحّ مواردها الطبيعية، ورفض أشقائها من مترفي البترول والغاز إعانتها، هكذا ستكون مصر حينما تترسّخ في أرضها ديمقراطيتها الناشئة.. ألا فلتحيا الديمقراطية المصرية!