كان الفرنسيون، خاصة المثقفون منهم، يحتقرون صحافة الإثارة، فنعتوها بصحافة الكلاب التي دهستها السيارات. وكانت دول أوروبا الشمالية تستخفّ، هي الأخرى، بهذه الصحافة، وتراها مصدر خطر على الأمن العام، لكونها تشجع، بشكل ضمني، الجريمة والاغتصاب والسرقة، وتهتم ب''توافه'' الحياة الاجتماعية، فتلهي القراء بأمور ''سخيفة'' على حساب قضاياهم الجادة. بينما كانت الدول الأنجلوسكسونية، خاصة بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا، تقدّرها وتعتبرها صحفا جادة وصحية. لقد اقتنع روّاد هذه الصحافة بأنها صناعة، لذا أخضعوها لشروط الإنتاج الصناعي: سحب أكبر عدد من النسخ بأقل تكلفة في الإنتاج. وهذا تطلب منهم إعادة النظر في محتوى ما تنشره، ليقتصر على المواضيع التي تثير فضول القارئ وحتى غرائزه: فضائح الجنس والسياسة، والجرائم، والأحداث الشاذة والغريبة. والكتابة بلغة بسيطة وسهلة، في متناول الذين أجبرتهم عملية التصنيع على امتلاك أبسط مبادئ القراءة، والوافدين الجدد على نظام التعليم الذي أصبح إجباريا. وعزّزت هذه اللغة بالصور الجذابة والعناوين الصاخبة ذات الألوان الزاهية. وقد استفادت هذه الصحافة من ظهور الأكشاك المخصصة لبيع الصحف التي انتصبت في الساحات والحدائق العامة، ومحطات وسائل النقل العمومي، والشوارع الكبرى. وبشكل مواز، خفضت سعر الجريدة إلى الثلث، ورفعت عائداتها من الإشهار إلى 08%. لقد ساهمت صحف ''الإثارة''، أو صحافة التبلويد، في ميلاد مهنة الصحافة، فحرّرتها من احتكار عمال البريد والهواة والكتاب والسياسيين، وشكلت فريقا من المحرّرين احترف فن استقصاء الأخبار وملاحقة فاعليها أو ضحاياها. وقدّمت للقارئ، عبر القصص الإخبارية، معارف في مجال القانون، وعلم الإجرام، والطب الشرعي، واللغة، وعلم النفس والأمراض العقلية، وحتى الاقتصاد. وشجعت القراءة في المجتمع، فاتسعت حلقة قرّاء الروايات البوليسية، بتزايد عدد قرائها. ليس هذا فحسب، بل طوّرت المنظومة التشريعية بالقوانين المتعلقة بحماية الحياة الشخصية وحق الرد والتصويب، والقذف. باختصار، لقد طوّرت الترسانة القانونية التي ظلت تتجدّد بفضل النقاش حول الحق في حماية الخصوصية وحرية التعبير. في ظل المعارك التي خاضتها صحافة الرأي، والأسرار التي كشفت عنها صحافة التبلويد، أصبح الصحافيون أكثر حرصا على دقة أخبارهم ومصداقيتها، وأكثر أمانة في نقلها، لأنهم أضحوا مطلوبين للمثول أمام المحاكم، للتعبير عن حسن نواياهم وصدق معلوماتهم. والآن، بعد انحسار صحافة الرأي في العديد من مناطق العالم، تغيّرت صحافة ''التبلويد''، وأخذت مسمى صحافة ''المشاهير''، وهيمنت على عالم النشر. فصحيفة ''ذو السن'' البريطانية، على سبيل المثال، أصبحت توزع حوالي 4 ملايين نسخة، و''ديلي ميرور'' حوالي مليونين ونصف. وفي فرنسا، ثبّتت مجموعة بنتلسمان الألمانية أقدام صحافة المشاهير في فرنسا، بعد أن أطلقت مجلة ''فواسي''، وغالا'' وألو''. ورسخت نشاط مجموعة هاشيت التي أصبحت رائدة في هذا المجال عبر مجلتيها، باري ماتش و''أل''. لذا، نلاحظ أن النظرة الدونية لصحافة ''التبلويد''، في فرنسا، قد زالت أو تكاد. فالكثير من الصحافيين أصبحوا مقتنعين بأن صحافة المشاهير التي تقوم بالتحرّيات الضرورية حول ما تنشره، وتتأكد من مصادر أخبارها، وتفهم جيّدا ما تكتبه، لا تختلف كثيرا عن مجلة لكسبرس الفرنسية المشهورة برزانتها. هل لهذا التغيير في النظرة لهذه الصحافة صلة مباشرة بالفضائح التي دأبت الصحيفة الإلكترونية ''ميديا بارت'' في إثارتها خلال السنوات الأخيرة، وهزت المجتمع الفرنسي؟ ربما، لكن حتى المثقفين غيّروا نظرتهم لصحافة المشاهير، واعتبروا أن ما تنشره يشكل جزءا من متن الثقافة الشعبية، في ظل تداخل الإعلام والترفيه، ورأوا فيها مرآة ينظر عبرها المجتمع لذاته. لكن، ماذا عن صحافة التبلويد في المنطقة العربية؟ دون جلد الذات، يمكن القول إنها جرّت الصحافة إلى الوراء، وأصبحت تثير الشبهات حولها. فالكثير منها مازال يمارس النميمة لأسباب تجارية أو سياسية، ولم يرتق إلى مستوى الاستقصاء وكشف الحقائق، ويميل إلى افتعال الضجيج حول الأحداث، دون صرامة مهنية، ولا يتقيد بأبجديات الكتابة، ويحرّر معظم موادها في المكاتب، دون بحث أو تحرّ. فلا تعرف فيها القاتل من المقتول، ولا أين جرى الحدث، ومن هو مصدره، بل لا تفرق بين القاضي ووكيل النيابة! وبين الشكوى والاتهام! تطلق الأوصاف والنعوت، دون حذر ولا خوف من الوقوع تحت طائلة القانون بسبب القذف. وبهذا، فإنها تفقر القارئ إن لم تبلده. ما سبق قوله لا يعدّ مرافعة لصالح صحافة المشاهير في الدول الغربية، لأن هذه الأخيرة لم تنج من الأخطاء والتجاوزات التي تقع فيها الصحافة بصفة عامة. وما تجسس صحيفة ''نيوز أوف ذو وولد'' البريطانية على قادة الأحزاب والنواب والوزراء ورجال الأعمال في بريطانيا، إلا مثالا بسيطا عن هذه التجاوزات. وهذا موضوع آخر، يستحق الكتابة عنه، دون إثارة.