أفضّل ألبير كامي على جان بول سارتر. أقول هذا رغم أن سارتر ساند الثورة الجزائرية بشكل مباشر، وهو ما لم يفعله كامي الذي كان يُعبّر عن أفكار تدعو للتعايش بين مختلف الأعراق، مع وضع حد لهيمنة العائلات الكولونيالية المالكة للأراضي. إن الجانب الإنساني هو الذي يطغى على كامي، بينما بقي سارتر حبيس نظرة إيديولوجية ضيقة سارت وفق مقتضيات الحزب الشيوعي. وما أدركه كامي سنة 1947 بخصوص تجاوزات الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، تأخر عنه سارتر، ولم يتوصل إلى كنه مغزاه إلا بعد حدوث المجازر التي ارتكبها الجيش السوفييتي في المجر سنة 1956 عقب الثورة المعادية للوجود الشيوعي. وما يثير الإعجاب في صاحب رواية ''الغريب''، هو تمزقه وقلقه، هو روحه ''الكفاكاوية'' وعدم قدرته على إثارة إعجاب المثقفين من حوله. فقد كان يساريا دون أن يبدي ولاء للشيوعية، في زمن كانت فيه هذه الأخيرة بمثابة ''الموضة''. ولما كتب ''الرجل المتمرد''، ثارت ثائرة المثقفين اليساريين واعتبروه كاتبا رأسماليا، وهو ما يُعتبر شتيمة فظيعة آنذاك، حتى أن سارتر أدلى بدلوه، ودفع فرنسيس جيزون لكتابة مقال انتقد فيه كامي واتهمه بالرجعية، فانقطعت روابط الصداقة بين الرجلين، علما أن فضل كامي على سارتر لا يمكن نكرانه، فهو الذي فتح له أبواب المجد لما أتى به إلى مجلة ''نضال'' التي كان يشرف عليها خلال الحرب العالمية الثانية. كان كامي فنانا وفيلسوفا، أما سارتر فكان صاحب مواقف سياسية، كان حبيس تصور حزبي يساري، وهو ما رفضه كامي الذي اختار الفن على السياسة، ولما ألقى خطابه الشهير بأكاديمية ستوكهولم بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب سنة 1957، اعترف صراحة بخيبة المثقفين، وقال جملته الشهيرة: ''نحن جيل غير قادر على إحداث التغيير''. إنها الفكرة التي يستحيل أن يقولها فيلسوف متعالٍ مثل سارتر، المؤمن بقدرة المثقف على تغيير العالم. كان سارتر حبيس دوغمائية فلسفية، أما كامي فقد كان فنانا يستقي أفكاره من نبض الحياة ومن تجاربه المعقدة والمثيرة والناتجة عن رؤيته التشاؤمية للكون. بحث كامي عن جنسيته في اليوتوبيا، ودعا إلى التعايش في البداية، وتحدى عنصرية كبار الملاك (كامي ينتمي لعائلة فقير لا تملك شيئا) لكن حرب التحرير جعلته يغيّر كثيرا من مواقفه. دعا في البداية إلى إقامة نظام فيدرالي لفترة معينة، لكنه سرعان ما تخلى عن هذه الفكرة، فقد رمت به حرب التحرير إلى الجانب الآخر، فرفض دعوة جبهة التحرير الوطني واختار الصمت. أعتقد أن كامي كاتب عديم الجنسية... وقف وسط المتناقضات. وهذا هو مصير الذين ولدوا في أرض ليست لهم.. إنهم مجرد غرباء.. وجدوا أنفسهم أمام صيرورة تاريخية لا ترحم الذين يمسكون العصا من الوسط. جنسية كامي هي جنسية الكاتب.. جنسية أدبية وفلسفية.. غير مرتبطة بوطن.. بل بعالم الأدب والفلسفة.. ذاك العالم الذي يحقق ما لا تحقق السياسية.. فهو عالم يحتضن المُختلف والمغاير. وعليه، أعترف بأن قراءة ألبير كامي يجب أن تتسم بالحذر وبمجهود فكري كبير، يجعلنا نتجنب الانزلاق والوقوع في المحاكمات الأيديولوجية، ذلك أن كامي وقع ضحية اليوتوبيا. كان يدعو إلى تعايش جنسين متصارعين، هما الأوروبيون والسكان الأصليون. لكن مع مرور الزمن، أدرك أن هذه اليوتوبيا مستحيلة. فأثناء عودته إلى باريس العام 1956، عقب محاضرة ''السلم المدني'' التي ألقاها بنادي الترقي، سأله سائق التاكسي الذي كان بصدد إيصاله إلى المطار ''لماذا يكرهنا العرب؟''، فرد كامي بسؤال ''وماذا فعلنا لهم نحن حتى يشعروا بالحب تجاهنا؟''، فصمت السائق وكذلك كامي.. وكانت تلك هي طبيعته. فالرجل كان ميالا للفعل، لكنه سرعان ما يعود إلى صمتة. فبعد محاولة السلم المدني، تلقى رسالة من جان سيناك، يطلب منه أن يبدي مساندته لطالب عبد الرحمان حتى لا تنفذ في حقه عقوبة الإعدام لكنه فضل الصمت، لأنه تلقى تهديدات بالقتل من قبل الأقدام السوداء الذين كادوا ينكّلون به بعد مغادرته قاعة محاضرات نادي الترقي. هناك جبن في شخصية كامي، هذا كل ما في الأمر.. جبن جعله لا يحذو حذو كتاب فرنسيين ولدوا على أرض الجزائر أمثال جان سيناك أو جول روا.. هذا الجبن هو الذي جعله ينأى عن مواقفه السابقة المساندة للعرب. لكن نفس هذا الجبن في شخصيته، لا يمنع من اعتبار أعماله الروائية والفلسفية كأعظم مؤلفات القرن العشرين، على خلاف أعمال سارتر التي فقدت رونقها مع اضمحلال الوجودية.