أثارت قافلة الأديب ألبير كامي المزمع تنظيمها في شهر أفريل القادم بين فرنساوالجزائر، جدلا في أوساط المثقفين الجزائريين، بحكم خلفيتها السياسية في هذا الوقت المتميز بالتجاذب بين الجزائروفرنسا، حول موضوع الاستعمار الفرنسي وضرورة تجريمه، ومن ثَم تقديم الدولة الفرنسية اعتذارها للشعب الجزائري عما اقترفته من جرائم في حق الجزائر وشعبها. التوظيف السياسي لألبير كامي وكان من المفروض أن يظل النقاش حول إبداعات ألبير كامي الأدبية والفلسفية، محصورا بين الباحثين المتخصصين في مجالي الأدب والفلسفة -علما أنه ليس هناك من يدعو إلى إقصائه كأديب وفيلسوف- لكن توظيف هذه الشخصية توظيفا سياسيا، أدى إلى إخراج ذكر الرجل من الحرم الجامعي والكتابة النقدية المتخصصة، إلى الشارع بطريقة اشهارية براقة دون غيره من المبدعين الفرنسيين، دفع المثقفين المعارضين لقافلة كامي -وأنا منهم- إلى استخلاص الرسالة السياسية المراد إشاعتها بين الرأي العام، مفادها أن الأديب الفرنسي الكبير ألبير كامي، جزائري جغرافيا وتاريخيا وإبداعيا، رغم إعلانه صراحة معاداته للجزائر المسلمة. وما دام هذا الطرح مشرّبا بمسحة سياسية هادفة إلى منحه المواطنة الجزائرية التي لم يؤمن بها خارج إطار "الجزائر فرنسية"، فإنه من حق جميع المثقفين أن يدلوا بآرائهم حول هذه الرؤية السياسية لشخصية ألبير كامي. وإنه لمن السذاجة أن نلتزم الصمت بعد هذه "الخرجة" السياسية الغريبة، المتحدية لقيم نوفمبر على مرأى ومسمع صناع ملحمة نوفمبر، كما أنه من الغفلة أيضا أن نصدق أن الإبداع الأدبي مفصول عن المجتمع، وأنه للمتعة الفكرية فقط. وعلى أي حال أفضل أن أتهم بسوء فهم إبداعات ألبير كامي، على أن أسيء إلى ذاكرة الشهداء، خاصة ونحن مقبلون بعد وقت قصير ((2012 على الاحتفال بالذكرى الخمسين لاسترجاع السيادة الوطنية. منطق أنصار القافلة حاول أنصار قافلة ألبير كامي إقناع الرأي العام، أن الأمر لا يعدو أن يكون نشاطا علميا وفكريا، لا يحمل شحنة سياسية معينة، لذا يجب أن يبقى أمرها في نطاق المتعة الأدبية ونظرية الفن من أجل الفن، بمنأى عن السياسة والدين. وأكثر من ذلك فهم يرون أن ألبير كامي لم يسئ إلى الجزائر بل دعا إلى تجاوز العرقية، وتكريس -بدلا عنها- المواطنة كإطار لتعايش العرب والفرنسيين في إطار نظام كونفيدرالي تشرف عليه فرنسا. كما عاب بعض أنصار هذا التيار على محمد الشريف ساحلي، ومصطفى لشرف تصنيفهما لهذا الكاتب في دائرة الكتابات الكولونيالية. عريضة لرفض قافلة كامي وبمجرد ما أذيع مشروع القافلة، ظهر رأي معارض لها، سرعان ما تحول إلى جبهة استنهضت الهمم للتصدي لقافلة كامي التي يبدو أنها تحمل في جبتها فكرة تمجيد الاستعمار بطريقة ما. وظهرت هذه مبادرة التصدي على أيدي مصطفى ماضي، ومحمد بوحميدي، وعمار شعلال، وسامية زنادي، ثم سرعان ما احتضنتها شخصيات بارزة تجمع بين البعدين الثقافي والسياسي، ومثقفين ومواطنين، بعد أن أدرك الجميع أن الغاية قد تجاوزت المتعة الأدبية، لتصبح توظيفا سياسيا غايته إعادة الاعتبار السياسي لألبير كامي، الذي سبق له أثناء الثورة التحريرية، أن اختار أمه فرنسا على حساب عدالة القضية الجزائرية. ونجد في طليعة الموقعين على عريضة التصدي ،علي هارون، ومبروك بلحسين، ومصطفى تومي، وعبد المجيد عزي - وهم من هم- وعددا آخر من الكتاب الجامعيين الذين يحسنون الكتابة باللغتين العربية والفرنسية. موقف المثقفين الجزائريين من كامي ولعله من المفيد أن نستانس في هذا السجال بموقف المثقفين الجزائريين الكبار إزاء الكاتب الفرنسي ألبير كامي، وحسب علمي فقد انتقده محمد الشريف ساحلي، ومصطفى لشرف، وأحمد طالب الإبراهيمي، وجان الموهوب عمروش، ومالك حداد، وكاتب ياسين ومولود فرعون، ومولود معمري، والطاهر جاووت، لعدم إدانته للاستعمار الفرنسي، ولعدم دعمه للقضية الجزائرية العادلة، علما أنه كان قد أدان الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، وآمن بشرعية عنف المقاومة الفرنسية ضد النازية، التي شارك فيها. وبتاريخ 27 ماي 1951، أرسل الكاتب مولود فرعون رسالة إلى الكاتب ألبير كامي، من قرية ثاوريرث (ولاية تيزي وزو) حيث كان مدرسا، جاء فيها قوله: "لقد قرأت "الطاعون" ويبدو لي أنني فهمت كتابكم فهما جيدا. لقد تأسفت لعدم تخصيصكم ولو شخصية واحدة للأهالي رغم تعدد شخوص الرواية، ولاختزالكم لمدينة وهران في الإدارة الفرنسية فقط." ثم أضاف قائلا: "ليس هذا عتابا، ولكني قلت مع نفسي، لو لم تكن هذه الهوة الفاصلة بيننا قائمة، لعرفتمونا معرفة جيدة، تمكنكم من التحدث عنا بخير، كما تفعلون مع الآخرين. وآسف من أعماق قلبي على أنكم لا تعرفوننا حق المعرفة، وعلى افتقارنا إلى مَن يقدر على معرفتنا، ويأخذ بيدنا لنعرف أنفسنا أكثر." الجزائر في تصور ألبير كامي كان ألبير كامي يؤمن بجزائر الاستعمار (من الرومان إلى الاحتلال الفرنسي)، ولا يتصور مستقبل الجزائر إلا في إطار الحضارة الفرنسية، وعليه فقد كان يعارض الحركة الوطنية الجزائرية الداعية إلى التحرر من الهيمنة الفرنسية، والعودة إلى إطار الحضارة العربية الإسلامية، وينكر عليها ربط مصير الجزائر بالعالم العربي، بحجة أن تركيبة السكان في الجزائر عديدة، تشمل العرب والأمازيغ والأتراك واليهود، والفرنسيين. وكتب ذات يوم موضحا أن مصطلح "الجزائري" خاص بالعناصر الأوروبية، أما العرب والأمازيغ فهم مدرجون ضمن مصطلح "المسلم". وعليه فإن إصرار أنصار قافلته على منحه الجنسية الجزائرية المسلمة، هو خرق لإرادته الحرة التي جعلته يختار أمّه فرنسا. ومن أخطائه القاتلة أنه سوّى بين بطش الجلاد ودفاع الضحية، حين وضع عنف الاستدمار الفرنسي المعتدي على الجزائر، وعنف المدافعين عن كرامتهم وسيادة أرضهم في كفة واحدة، ثم اعتبر الثورة الجزائرية إرهابا من صنع الامبريالية العربية التي تقودها مصر الناصرية. والجدير بالذكر أنه غادر مجلة الاكسبريس سنة 1957، بعد أن غيّرت خطها السياسي، فأصبح مؤيدا لاستقلال الجزائر. ألبير كامي وبؤس القبائل كتب ألبير كامي سلسلة من المقالات عن بؤس بلاد القبائل، ما بين 5 جوان و15 جوان 1939، نشرها في جريدة [Alger républicain]، ثم قامت مؤسسة زيرام للنشر ببجاية بإصدارها في كتاب سنة 2005م. وصحيح أن ما ورد فيها من حقائق هو جزء من تاريخنا يستحق النشر باعتباره كاشفا للأوضاع المزرية التي كان يعيشها الجزائريون في ظل الاحتلال الفرنسي، وصحيح أيضا أنه تحدث بأمانة عن هذا البؤس، حين قال "ليس أشد وقعا على المرء من أن يرى ذلك البؤس في أحضان أجمل بلد في العالم... ولن تجدي عبارات الحب والإحسان التي يتشدق بها الفرنسيون، فما يحتاجه البائسون هو الخبز والقمح ويد تمتد إليهم تمد لهم مساعدات ملموسة، وما عدا ذلك فهو نظري ومثالي.". لكن الكاتب ألبير كامي اكتفى بوصف هذا البؤس الرهيب، ولم يربطه بالاستعمار الذي مارس سياسة الأرض المحروقة على أجدادنا لإرغامهم على الاستسلام، وصادر أراضيهم وممتلكاتهم، وحصرهم في الجبال الفقيرة، مع منعهم من استغلال الغابات والرعي فيها. وبدل إدانة ظاهرة الاستعمار باعتبارها آلية مكرسة للعبودية في العالم، راح الكاتب يبرر بؤس بلاد القبائل بعوامل طبيعية واجتماعية واقتصادية، كفقر التربة التي لا تنتج الحبوب، وكثافة السكان، وغلق أبواب الهجرة نحو فرنسا بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929، التي قلصت مناصب الشغل، بالإضافة إلى ارتفاع سعر القمح، مقابل انهيار أسعار محصولي التين المجفف وزيت الزيتون، اللذين تنتجهما بلاد القبائل. هذا ومما لا شك فيه أن الهدف من نشر مقالاته حول بؤس القبائل، هو لفت أنظار فرنسا إلى وجوب تغيير سياستها الفاسدة التي خلقت الفجوة بين فرنسا المستعمِرة والجزائر المستعمَرة، من أجل سحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية الجزائرية المؤمنة باستقلال الجزائر. ولعل تذكير الكاتب في مقالته الأخيرة المؤرخة بتاريخ 15 جوان 1939م، والتي جاء فيها قوله: "نقد السلوك السيئ للفرنسي، أفضل من فضح بؤس بلد فرنسي." لأهمّ دليل على دفاعه المستميت عن الاستعمار الفرنسي، وحجة دامغة على إيمانه بالجزائر الفرنسية. ثم أكد ذلك أثناء الثورة التحريرية، عندما صرح أن السؤال المحوري في رأيه هو: متى تصير الجزائر فرنسية، وليس متى سترجع جزائرية؟ إنه كاتب بارع في الدفاع عن ظاهرة الاستعمار، مثلما أكد المفكر العربي الكبير إدوارد السعيد. فرانسيس جانسون أمانة في أعناقنا وبدل التفكير في تكريم ألبير كامي الذي انحاز إلى أمّه فرنسا على حساب عدالة القضية الجزائرية، يجب أن يصب التفكير حول مشروع تكريم المثقفين الفرنسيين الذين وقفوا بحزم وعزم مع الثورة الجزائرية، أمثال فرانسيس جانسون، وجان سيناك، وموريس أودان، وجان بول سارتر، وفرانسوا ماسبيرو، وأندري ماندوز، وروبير دافيزي، وفرانز فانون، وغيرهم. وليس من الشهامة أن تنسى الدولة الجزائرية هؤلاء الأصدقاء الذين ساعدوا شعبها، وقت الشدة لاسترجاع السيادة الوطنية المغتصبة. وفي حالة استمرار عزوفنا عن رد الجميل لهؤلاء الأحرار، وإقبالنا على تكريم أمثال ألبير كامي الفرنسي قلبا وقالبا -لا قدر الله- ستنزل علينا لعنة التاريخ، ولن تكفي مياه المحيطات لغسلها ومحوها مستقبلا.