ممّا يتوهّمه البعض أنّ القناعة أن يمتنع التاجر من تنمية تجارته، وألاّ يضرب المسلم في الأرض طلبًا لرزقه، وألاّ يسعى المرء فيما يعود عليه بالنّفع. وهذا، في الحقيقة، وَهْمٌ في المفهوم السّليم للقناعة الّتي قصد إليها الشارع الحكيم. فكلُّ ما ذُكر مطلوب ومرغوب، وإنّما الّذي يتعارض مع القناعة أن يغشّ التاجر في تجارته، وأن يتسخّط الموظف من مرتبته ومرتَّبه، وأن يتبرّم العامل من مهنته، وأن يُنافق المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير اللّه تعالى للحصول على مرغوب زائل. فليس القانع ذاك الّذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، وليس القانع ذاك الّذي يتطلّع إلى ما ليس له، وليس القانع الّذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنّى من رُتَبِ الدُّنيا؛ لأنّ الخير له قد يكون عكس ما تمنّى. إنَّ القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين، ولكنَّ القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه، حتى يمنع حق اللّه فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرّط في الفرائض من أجلها، ويرتكب المحرَّمات، من ربا ورشوة وكسب خبيث، حفاظاً عليها أو تنمية لها. يقول أبو ذر رضي اللّه عنه قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ''يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟'' قلت: نعم يا رسول اللّه، قال: ''فترى قلّة المال هو الفقر؟'' قلت: نعم يا رسول اللّه. قال: ''إنّما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب''. وتلك هي الحقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحّته، ويضحّي بوقته يريد المزيد، وكم من فقير يرى أنه أغنى النّاس؛ وهو لا يجد قوت غده، فالعلّة في القلوب رضى وجزعًا، واتساعًا وضيقًا.