لا شك أن الذين شيّعوا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، رحمة الله عليه، إلى مثواه الأخير بالقرب من قبر القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي، قاهر الصليبيين وقاطع دابرهم، قد استودعوا ذلك المكان دائرة معارف إسلامية نفيسة من الصعب تعويضها، ومنهجا فكريا متميزا يميل إلى الوسطية والاعتدال. يمثل جوهر الدين الإسلامي الحنيف الذي ينبذ المغالاة والتعصب والتطرف، مهما كان الدافع إليها، ومنارة إنسانية تتجاوز كل الحواجز والاعتبارات، تدعو إلى خير البشرية، من خلال الاحتكام إلى رابطة الأخوة الآدمية، وتفعيل روح العدل والمساواة والتعاون والتضامن بين الشعوب كافة، دون استثناء، والابتعاد عن جميع مظاهر السطوة والتجبر والعدوان، التي طبعت تاريخ البشرية في أغلب فتراته، ولاتزال إلى غاية الآن، ولكن بشكل غير مسبوق، جعل الدول والشعوب الضعيفة لا تأمن على سيادتها وثرواتها بين عشية وضحاها. ففي كل مرة نودّع فيها شخصية علمية أو فكرية، وبعد أن نخرج من أجواء الصدمة والحزن، نتساءل كم يلزمنا من الوقت كي نعوّضها بشخصية أخرى؟ وهل ذلك ممكن في واقع الأمر؟ وهل استوعبنا حقيقة المعالم التي أسست عليها منهجها العلمي أو الفكري؟ وما الذي ينبغي فعله للاستفادة من التراث الذي خلفته؟ وغيرها من الأسئلة التي وإن كانت عموما صحية، تعبّر عن رغبة ملحة في استثمار رصيد وتجارب قادة الفكر والرأي عندنا، في معالجة قضايا الحاضر واستشراف آفاق المستقبل، فإنها، في المقابل، تؤشر على حالة من التخبط والعجز المزمنين في التعامل مع كل ذلك. وأنا أخط هذه الكلمات، أمامي مقال للدكتور البوطي بعنوان: ''تأملات في مستقبل العالم والعالم الإسلامي''، منشور ضمن كتاب الإنسان المعاصر الصادر عن مركز البيان الثقافي ببيروت سنة 1995م، ناقش فيه برؤية واقعية واستشرافية جملة من المواضيع، منها ما سمي بالصحوة الإسلامية التي قال بشأنها إنه حذر من آفاتها أكثر مما اغتبط بها، فكانت حجته في ذلك أن: ''النصيب الأوفر من تلك الصحوة، كان، للعواطف والوجدان، لا للعقل أو التدبير المخطط''. منتهيا إلى القول: ''إن واقع المسلمين، اليوم، في أرقى ما يمكن أن يسمو إليه، هو واقع اغتباط بالإسلام وافتخار بمزاياه وآثاره، وهياج في الدعوة إلى تطبيقه.. فإذا جاء وقت التخطيط لتنفيذ ذلك، ولتحصين وجوده ضد المتربصين به، ولتحصين المسلمين ضد ما قد يراد بهم، لم تجد على مائدة هذا التخطيط أيا من أولئك المغتبطين أو الدعاة''. ليس البوطي المفكر الوحيد الذي توصل إلى هذا التشخيص الدقيق لحال العالم الإسلامي، ومعه بطبيعة الحال العالم العربي، لكنه في المقابل وكما كان دائما، يمتلك جرعة كبيرة من الشجاعة الأدبية في اتخاذ موقف معارض من قضية كتب عنها ورحب بها وروّج لها وغنى لها واستثمر فيها كثيرون، حسب نواياهم وخلفياتهم، حيث بدا وكأنه يسبح ضد التيار، لكن الأيام كشفت دقة موقفه، ومتانة حجته، وصحة حدسه. فقد كان يفعل ذلك بأسلوب هادئ، قلّ نظيره في هذا الزمان الذي غابت فيه سلطة العقل والحوار، وحلت محلهما سلطة التعصب والعنف والجهل، ورفض آراء المخالفين، مهما كانت صائبة، بل وحرمانهم من حقهم في حرية التعبير. إذ ندعو المهتمين بالموضوع إلى قراءة المقال المشار إليه أعلاه، ونترك لهم حرية الحكم على ما جاء فيه، وفي غيره من كتابات ومواقف البوطي. في عصر الانحطاط الشامل الذي نحياه وطال أمده، بدلا من أن يكون العلماء البوصلة التي تعيد قطار المجتمعات العربية والإسلامية إلى سكته الصحيحة، بالأفكار والنظريات والعلوم والمعارف والخبرات التي تؤسس وتبني، غرقت فئة منهم في مستنقع الجدل العقيم الذي لم يقدم شيئا، والصراعات الوهمية. بل تخطى بعضهم الخطوط والحدود، فراحوا ينزعون الحق في الكلام والتنظير والحياة أيضا، عمن يخالفونهم قناعاتهم التي لسنا بصدد مناقشة صحتها أو خطئها في هذا المقام. كيف يكون موقف عامة الناس من المسلمين، وهم يشاهدون تلك المباريات الساخنة التي تبثها الفضائيات العربية والعالمية، ليس بين فرق عريقة في كرة القدم كما تجري العادة، وإنما بين علماء يفترض فيهم أن يحافظوا على حد أدنى من آداب الدين الذي يدّعون الدفاع عنه أولا، وعلى قدسية العلم الذي يرفعون شعاره ثانيا، وعلى رد فعل الآخر الذي لا يجمعهم معه أي شيء، قناعة أو عقيدة أو فكرا... إلخ ثالثا. إنه لمن دواعي الألم والشعور باليأس والمرارة، حينما تصبح هذه المشاهد صورا يومية معتادة، زادت في تأزيم أوضاعنا المتأزمة أصلا، وجعلت غيرنا يطعن في ماضينا ورموزنا وقناعاتنا، ويسخر من أسلوبنا ونظرتنا إلى الحياة؟ فما مصداقية ردود أفعالنا بعد هذا إزاء الجعجعة التي أثرناها ضد ما عرف بالرسومات الكاريكاتورية التي حاول أصحابها من ذوي الأنفس الخسيسة، والفكر المنحط، والعقول المريضة، النيل من سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم؟ فهل هناك من أمل في أن يحترمنا خصومنا بعد كل ذلك؟ ومتى يتوقف هذا العبث الذي استنزف الطاقات العربية والإسلامية، وحوّلنا إلى مجرد متفرّجين، يدفعون ثمن تذاكر مشاهدة قطار الحياة المار بسرعة البرق أمامنا، حاملا معه الإنجازات الحضارية العظيمة والخارقة التي تسيل لعابنا من أجل استهلاكها لا صناعتها؟ ومتى نخرج من هذه الدوّامة التي يتحمّل جانبا من مسؤوليتها هذا الصنف من العلماء الذين يدفعون الناس إلى الموت بدل الحياة، رغم أن الله سبحانه وتعالى خلقهم كي يعيشوا ويعمّروا الأرض، ويبدعوا ويبتكروا ويتدبروا ويؤسسوا فيها، لا أن يتقاتلوا فيما بينهم بحجج واهية وتافهة، تفاهة العقول التي نظرت لها وشجعت عليها؟ وإنك لتعجب عجبا شديدا، وتعتريك الحيرة، وتصيبك الدهشة التي تعقد لسانك، وأنت ترى وتسمع علماء يوجهون بطاقات الدعوة للاستعمار العسكري كي يعود إلى أوطانهم، بمبرّرات تعجز العقول السليمة عن هضمها. يعود لينجز فيها ما عجزت عنه حكومات الاستقلال؟ لست مخطئا إذا قلت إن قادة الاستعمار السابقين حظهم تعيس جدا، لأنهم لم يجدوا في زمنهم هذا النوع من العلماء، ووجدوا في المقابل المقاومات والثروات وكل أشكال الرفض، فاضطروا إلى العودة من حيث أتوا. * باحث وأكاديمي من الجزائر [email protected]