لم تسجل السلطة قفزة نوعية في مجال إعلام الرأي العام بالوعكة الصحية التي ألمّت برئيس الجمهورية وتطورات علاجه، واكتفت كالعادة بإصدار بيانات ورسائل مقتضبة، وهو ما يصنّف في خانة ''الحد الأدنى'' المسموح به، حول ملف ظل على مرّ السنين يتعامل معه ك''سر'' من أسرار الدولة. ومرة أخرى، لم تتمكن مؤسسات الدولة من كسر ''طابو'' من الطابوهات العديدة التي دأب النظام على عدم تخطيها، عندما يتعلق الأمر بمرض رئيس الدولة، وهو ما جعل عدة أحزاب تدعو لمزيد من الشفافية، لكون القضية تهم المواطنين ولا يجب أن تبقى تتداول في ''الكواليس''. وفي ذكرى إحياء اليوم العالمي لحرية التعبير والصحافة، تبقى حرية تداول المعلومات في الجزائر مطروحة بإلحاح. رغم مبادرتها بالكشف عن مرض الرئيس الطبقة السياسية تسجل غياب الشفافية وتطالب بمعرفة المزيد رغم مبادرة الرئاسة بالكشف عن مرض الرئيس ونقله للعلاج في الخارج، من خلال بيانات مقتضبة مرّت كلها على الوكالة الرسمية التابعة للدولة، غير أن ذلك لم يكن كافيا لوضع حد لتقاليد راسخة داخل السلطة، ظلت تتعامل مع مرض أي مسؤول في الدولة على أنه ''سر لا يباح به'' للرأي العام. هل كانت البيانات التي وافقت السلطات العليا على نشرها بشأن تطور الحالة الصحية لرئيس الجمهورية، من باب الحق في إعلام الرأي العام حول وضعية رئيسه؟ أم أن الأمور لم تنضج بعد بالشكل الذي يجعل السلطة تتخلى عن وضع مرض الرئيس في خانة ''سر من أسرار الدولة''؟ تظهر ردود الفعل، سواء الصادرة عن الأحزاب السياسية في بيانات رسمية أو تلك المعبّر عنها من قبل عامة الناس، أن طريقة البيانات المقتضبة التي اعتمدتها السلطة لم تقطع الشك باليقين، حيث سارعت مجموعة الأحزاب للدفاع عن الذاكرة إلى مطالبة الجهات الرسمية ب''المزيد من الشفافية''، حول صحة الرئيس، على اعتبار، مثلما قالت، أن هذه القضية تهم كل المواطنين ''وليست شأنا يتم تداوله في الكواليس''. ويفهم من هذه الملاحظة التي وقفت عندها 12 تشكيلة سياسية، أن هناك توجسا لدى المعارضة، من أن الجهات الرسمية تخفي أشياء تخص الوضعية الصحية لرئيس الدولة، كما يفهم منه أيضا أن البيانات الرسمية الصادرة لم تكن فعاليتها بالنحو الذي يطمئن النفوس وينهي حالة الشك والريبة. ومن جانب ما يتردد في الشارع أنه ما دامت صحة الرئيس جيدة، مثلما قال الأطباء، فلماذا لم تنقل وضعيته بالصورة والصوت؟ ولماذا يلجأ إلى البيانات كوسيلة للاتصال في عهد تكنولوجيا الصورة والصوت؟ وطالما أن السلطة التي احتفلت بحرية التعبير والصحافة، وأقام وزير الاتصال حفلا كبيرا لذلك بقصر الثقافة، فلماذا تعاملت مع مرض الرئيس بطريقة التبليغ من ''الفم إلى الأذن'' ولا علاقة لها بفن الاتصال العصري؟ وحتى وإن رخصت السلطة للبروفيسور المعالج للوعكة الصحية للرئيس، رشيد بوغربال، بالتصريح في حدود لبعض وسائل الإعلام المحلية، غير أن ذلك لم يكن كافيا لكسر أحد ''الطابوهات'' التي ظلت السلطة على مر الأعوام تمارسه بشدة، وهو اعتبار مرض الرئيس أو غيره من القضايا الهامة للبلد ''سر'' لا يجب الحديث عنه للشعب. إذ باستثناء البروفيسور بوغربال والوزير الأول عبدالمالك سلال، لا وزير الصحة ولا الداخلية ولا الخارجية ولا سفير الجزائر في باريس ولا أحد من ممثلي مؤسسات الدولة وهيئاتها، تحدث عن الوعكة الصحية للرئيس، ما يعني أن حرية إعطاء المعلومات ليست متاحة ومحاطة بالسرية، وهي وراء تراجع الجزائر إلى الرتبة 125 في ميدان حرية الصحافة في العالم. بسبب تفضيلها السرية والكتمان في تسيير الشأن العام السلطة لا تحسن الاتصال وإن حدث لا تجيد الإقناع على عكس نهاية 2005، عندما استدعى الرئيس بوتفليقة التلفزيون العمومي لتصويره في غرفة استشفائه ب''فال دوغراس''، في محاولة للطمأنة على حالته الصحية، اختار هذه المرة طريقة أخرى لتبليغ نفس الرسالة: برقيات إلى الرياضيين والعمال والصحفيين، لكن دون أن يظهر بالصوت والصورة. في 2005، استعان بوتفليقة ب''شهادة'' شخصين للتأكيد على أن حالته الصحية ليست في خطر، بما يعني أنه قادر على مواصلة تسيير دفة الحكم، أحدهما مختص وهو طبيبه الشخصي، البروفيسور مسعود زيتوني الذي سافر معه إلى باريس وظهر في شاشة التلفزيون رفقته، والثاني ينتمي إلى الوسط الفني، هو مطرب الراي الشاب مامي الذي صرَّح لوسائل الإعلام الفرنسية بأنه زار الرئيس بالمستشفى وبأن لا خوف على صحته. وفي تجربتي الاتصال الرسمي اللتين اتجهت إليهما السلطات في 2005 و2013، أظهرت قدرة على ''الإخراج'' فيما يخص تبليغ معلومة مرض الرئيس، لكنها أثبتت عجزا عن الإقناع بأن لا خطورة على صحة بوتفليقة. ففي المرة الأولى واجهت سيلا من الأخبار من غالبية وسائل الإعلام الفرنسية، منقولة من مصادر سياسية من اليمين، مفادها أن مرض بوتفليقة يقدم أعراضا شبيهة بورم في المعدة. وبما أن الجزائريين على استعداد لتصديق ما يأتي من الخارج لعدم ثقتهم في كل ما يأتي من المسؤولين الجزائريين، فقد وجدت تصريحات دوبري الطبيب الفرنسي برلماني اليمين، صدى قويا في الجزائر، والتي جاء فيها أن بوتفليقة مصاب بالسرطان. وتزامن مرض بوتفليقة، في تلك الفترة، مع نقل وزير الداخلية السابق، يزيد زرهوني، إلى.. باريس (دائما) لزرع كلية. وبذلك تشكل شعور عام بأن ''الجمهورية يسيّرها مرضى''، وبأن لا وجود لمؤسسات في البلاد إلا الرئيس الذي إذا غاب توقف كل شيء، لأن كل السلطات والقرارات مركَّزة بيده، وحتى في حال عجزه بدنيا لا توجد أي جهة رسمية تبلّغ المجلس الدستوري لإعلان حالة شغور منصب رئيس الجمهورية! وتعكس عقلية الجزائريين بشأن عدم الثقة في مسؤولي بلدهم، موقفا من الأسلوب الذي تعتمده السلطات في التعاطي مع القضايا الهامة، فهي تفضّل السرية والكتمان ولا ترى أنها ملزمة بتقديم الحساب للجزائريين. ولذلك لا يجد المسؤولون أي حرج في تقديم روايات وتصريحات متناقضة، كما حدث بخصوص هوية المعتدين على منشأة الغاز بتيفنتورين، وما إذا كانوا من الجزائر أم جاؤوا من ليبيا أم من مالي. والملاحظ أن السلطات حاولت، عندما أعلن السبت الماضي بأن بوتفليقة أصيب بنوبة إقفارية ''عابرة''، صرف الجزائريين عن ما قد يأتيهم من الفرنسيين من إشاعات، حتى قبل أن يقول الطبيب رشيد بوغربال، رسميا، إنه سينقل إلى فرنسا لتُجرى له فحوص. فقد صرح الوزير الأول، عبد المالك سلال، من بجاية، بالحرف الواحد: ''الرئيس بخير وحالته لا تدعو إلى القلق، ولا تصدّقوا ما يأتيكم من الخارج''! حوار رئيس جبهة الجزائرالجديدة جمال بن عبد السلام ل''الخبر'' ''ترك المجال للإشاعة حول صحة الرئيس مقصود'' طالبتم في مجموعة الأحزاب للدفاع عن الذاكرة بمزيد من الشفافية حول مرض الرئيس، واتهمتم السلطة بحجب المعلومات والمعطيات المتعلقة بحالته الصحية، رغم أن هناك تصريحات وبيانات صادرة عن البروفيسور بوغربال؟ السلطة اعتمدت الغموض والتكتم الشديد مع الرأي العام والطبقة السياسية، وتركت المجال للإشاعة والإشاعة المضادة، وهذا يؤدي إلى إرباك الساحة والرأي العام، ثم إن ما تم غير كاف، فرئيس الجمهورية شخصية عمومية ومن حق الشعب الجزائري أن يعرف الحقيقة حول وضعه الصحي. هناك سيولة ولو محدودة للبيانات حول حالته الصحية، على الأقل أفضل مما تم في سنة 2005، ما هو المطلوب في هذه الحالة؟ المطلوب تقديم المعطيات وتحيينها والتعامل بشفافية أكبر، صحيح أن كل الناس يمرضون ويموتون، لكن بوتفليقة ليس أي شخص، ثم إنهم يقولون إنه تعافى وخرج من المستشفى، لذا عليهم أن يظهروه في التلفزة لحظة خروجه من المستشفى ويكشفوا إن كان يعطي تصريحات ويتكلم أم لا، وهل بإمكانه السير أم لا، المهم أن يطلعوا الناس على أدق التفاصيل. إلى ماذا يُعزى هذا الغموض في التواصل مع الرأي العام؟ السلطة تعاني من إعاقة وعجز ولا تنتهج سياسة، وأكبر إعاقة هي التواصل داخل مؤسسات الدولة والتواصل أفقيا وعموديا ومع الرأي العام الوطني ووسائل الإعلام. وقد شهدنا، سابقا، تبعات الكوارث التي تسبب فيها مسؤولون بتصريحاتهم، ما أدى إلى التهاب بعض المناطق. هناك إستراتيجية متبناة ''من يتحكم في المعلومة يتحكم في الساحة والقرار''، وترك المجال للإشاعة مقصود للدفع بكل الأطراف في اتجاه خاطئ، ويبقى وحده من يمسك بخيوط المعلومة. على ضوء هذه التطورات والمعطيات، كيف تقيّمون أداء مؤسسات الدولة في مجال تقنيات وأدوات الاتصال؟ هناك تخلف وقصور واضح على مستوى توظيف واستغلال تكنولوجيات الاتصال الحديثة وفي أساليب التعاطي مع عولمة المعلومة، وهو مقصود. فالنظام الجزائري يعتمد إستراتيجية وضع الرأس في الرمل والانغلاق على الذات والانكماش في ميدان التحرك والتواصل الإعلامي، وهذا بدافع غياب الثقة في المحيط، وله نظرة حذرة، شك في الناشطين في الإعلام والنقابات والحركة الجمعوية. الجزائر: حاوره جمال فنينش الأستاذ بالمدرسة العليا للصحافة محمد حذير ل''الخبر'' ''السلطة كانت هذه المرة أكثر انفتاحا في قضية مرض الرئيس '' هل يجوز لنا أن نقول إن مرض الرئيس لم يعد سرا من أسرار الدولة في الجزائر..؟ هذه المرة بخلاف المرات السابقة، لاحظنا أن هناك تعاطيا من قبل السلطة مع مرض الرئيس بشكل إيجابي إعلاميا، لاحظنا أن المسؤول الأول في الحكومة، عبد المالك سلال، تحدث في نفس يوم مرض الرئيس عن الوضع الصحي، وأبلغ الرأي العام بذلك، قبل أن تعلن رئاسة الجمهورية عبر وكالة الأنباء الجزائرية عن مرض الرئيس ونقله إلى المستشفى، كما تحدث طبيب مختص ومدير مركز الطب الرياضي، البروفيسور بوغربال، عن الوضع الصحي للرئيس بوتفليقة. بالمجمل، أعتقد أن السلطة استنتجت أخطاءها في الحالات السابقة، وكانت أكثر انفتاحا فيما يتعلق بالتعاطي الإعلامي حول مرض الرئيس. كيف تفسر إسناد مهمة إبلاغ الرأي العام عن صحة الرئيس إلى شخص كالبروفيسور بوغربال..؟ الواضح أن الرهان الأساسي للسلطة، هذه المرة، فيما يتعلق بإخبار الرأي العام عن مرض الرئيس بوتفليقة، رهان المصداقية، وأنا أعتقد بأن الجهة التي كانت ترسل الخبر والمعلومة حول ما يتصل بمرض الرئيس، وهي رئاسة الجمهورية، اختارت هذه المرة شخصا غير مسؤول في مؤسسات الدولة ونزيه ومن القطاع الصحي وغير معروف بأي توجهات أو انحياز سياسي إلى الرئيس، يمكن أن يصدقه الناس، بهدف أن تكون رسالته الإعلامية نزيهة والأكثر صدقية مما سبق. برأيك، هل حققت السلطة هدفها في إحراز صدقية الناس لروايتها الرسمية عن صحة الرئيس..؟ لقد كان هناك اهتمام وتتبع لمرض الرئيس وقلق، بالنظر للظروف التي تمر بها الجزائر، وللمحيط الإقليمي ولغموض الظروف الداخلية قبيل الرئاسيات، والناس كانت قلقة. وحسب ما تابعت وما تحدثت مع الناس والطلبة في الجامعة، هناك قدر مقبول من الصدقية في الرواية الرسمية لمرض الرئيس ووضعه الصحي وهناك نوع من التصديق، لأن توقيت إرسال الأخبار للرأي العام كان مقبولا وفي يومه، ثم إن سرعة الإبلاغ وكثافة التواصل الرسمي مع الرأي العام، هذه المرة، ألغى باب الإشاعة، فالمرسل كان قويا في إرسال الخبر والمتلقي كان لديه إشباع. الجزائر: حاوره عثمان لحياني