كثير منا تنتابه الريبة والخوف بمجرد الحديث عن دول آسيا الوسطى، على غرار أفغانستان، أوزباكستان، طاجكستان، قيرغيستان وتركمانستان، حيث ارتبطت دول ''ستان''، ومعناها ''بلد''، بالإرهاب والعنف والعصابات الإجرامية، في الصورة الوهمية التي يصنعها الإعلام الأمريكي، ويتوجس كثيرون عند سماع أخبار هذه الدول وينفرون منها. لكن الوضع يختلف تماما في جمهورية ''كازاخستان''، ومعناها ''دولة الكازاخ''، وقد يغيّر من يزورها نظرته حيال هذه الدول شبه المعزولة عن عالمنا العربي والغربي كذلك.وهنا، تحضرني مقولة الإمام محمد عبده الشهيرة، بعد زيارته إلى أوروبا، حين قال: ''وجدت إسلاما في أوروبا ولم أجد مسلمين، وفي ديار الإسلام، وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام''. وفي كازاخستان، وجدت الإثنين: إسلام ومسلمون. الرحلة إلى جمهورية كازاخستان مرهقة وطويلة جدا، إذ تقع هذه الدولة الإسلامية الوليدة في منطقة آسيا الوسطى، حيث لا يوجد طيران مباشر إلى هناك، فتضطر إلى الانتظار لساعات في نقطة عبور، إما تركيا أو فرانكفورت أو دبي أو أبوظبي، لكن تعب السفر ينتهي بمجرد وصولك إلى هذه الدولة الفتية التي ظهرت إلى النور قبل 12 عاما، فتبهرك بهندستها المعمارية التي تجمع بين مختلف الحضارات والعصور، واستخدام تقنيات حديثة لأعمال البناء وتنفيذ الجسور، في عالم يشهد وتيرة متسارعة فيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي، وتطوّرات في كافة جوانب حياتنا المعاصرة. الكازاخيون.. شعب أحب حاكمه فوقف إلى جانبه بكثير من التحسر والتشاؤم على وضع الجزائر، شعرت وأنا في مدينة أستانا، عاصمة كازاخستان، وطرأت على ذهني سلسلة من التساؤلات جعلتني أفقد أملا في حكامنا. ففي كازاخستان التي تحتل المركز السادس في العالم باحتياطيات الثروات الطبيعية، أصبحت اليوم نموذجا يحتذى به عالميا، حيث حاربت التطرف بالتعليم، والفقر بالنجاح الاقتصادي، والقمع بالحرية، والفتنة الطائفية بالمشاركة، ورسخت مبادئ العدالة الاجتماعية. فالكل في كازاخستان يحب بلده، ويعشق كل حبة رمل فيه، ويتفنّن في أداء عمله وواجبه تجاه وطنه، دون كلل أو ملل، لِمَ لا وهو يعيش في بلد يقدّر شعبه ويوفر له جميع الشروط الضرورية للعيش بكرامة، بلد يطبق مبادئ وأهداف العدالة الاجتماعية التي يتمناها أي مواطن، وثار من أجلها شعوب دول الربيع العربي. وأنت تتجوّل بين ثنايا هذا المكان المعجزة، تروي لك شوارع العاصمة الكازاخستانية، أستانا، حكاية نجاح ونهوض هائل سريع بدأ من الصفر، حيث تحوّلت، في أقل من عشرين عاما، من مدينة منسية في السهوب الشمالية النائية إلى ''ميغابوليس'' المستقبل اقتصاديا وعمرانيا وبشريا. ففي هذه المدينة التي نهضت من لا شيء، مثال على نهضة أحد أكثر الاقتصاديات ديناميكية في العالم، وشعب يتسم بكثير من التفاؤل بالمستقبل، منبثق من شخصية الرئيس نور سلطان نزار باييف، المتعطش نحو المعرفة والقادر على استيعاب الحقيقة والأفكار الجديدة بحماس السياسي الشاب، فوفر لشعبه تسهيلات كبيرة للحصول على قروض، والعيش في سكن كريم ومرتبات مجزية، ومنحهم الحق في التعليم على نفقة الدولة في أي جامعة يفضلونها على مستوى العالم، بعيدا عن البيروقراطية أو ابن فلان المستفيد، لأنه يفكر ويعمل على تأطير كوادر لاستكمال بناء وتطوير بلدهم وفقا للمعايير العالمية. ومازاد من حب الكازاخيين لرئيسهم اقترابه منهم، وسعيه لحلّ والاهتمام بمشاكلهم، حيث يجمع بين الجدّية وخفة الروح والأفكار، وهي الطباع التي تطبّعت بها نجلته دريغا، رئيسة المنتدى الأوروآسيوي للإعلام، فتجدها بشوشة ومرحة تختلط بجميع الناس، وتقترب من همومهم، وتمشي في الشارع مثلها مثل أي مواطن عادي، بعيدا عن البروتوكولات التي نعيشها في عالمنا العربي، وترتدي ملابس عادية وبسيطة من غير بهرجة، وتشارك في جميع المناسبات والاحتفاليات، ولا يحوطها عدد كبير من الحراس الشخصيين، سوى اثنين. وهنا، أعود إلى حالة التشاؤم واستحقار الذات التي زرعت فينا، وأتساءل ما الذي ينقص جزائرنا الغالية لتلحق بمصاف الدول الكبرى، خاصة إذا وصل فائض الميزان التجاري إلى 42 مليار دولار أمريكي؟ ألم يحن الوقت أن يتعظ الحكام العرب بنظيرهم الكازاخي، ويلتفتون لهموم ومشاكل شعبهم، ويحسنون من مستواهم؟! رجال الأمن.. الحاضر الغائب في أستانا ما يلفت الانتباه في أستانا غياب رجال الشرطة عن التواجد في الشوارع، رغم قصص العصابات الإجرامية التي نسمع عنها، وعمليات السطو المسلح وما شابه ذلك، إلا أن القبضة الحديدية لمؤسسة الرئاسة وأركانها تمكنت من القضاء بصفة شبه كاملة عليها، وأعادت الأمن والأمان إلى المنطقة. وحتى تغيب عن تفكيرك الصورة السوداء الملطخة باللاأمن، تم سحب جميع قوات الشرطة من الشوارع، حتى تشعر بالأمن وأنت تتجوّل في زوايا المدينة، لكن أينما تولي عينيك، تقابلك كاميرات ذكية منتشرة في كل مكان. مدينة تجمع بين الحضارات والأديان تحتل كازاخستان المرتبة التاسعة في العالم من حيث المساحة بعد روسيا، بمليونين وسبعمائة وأربع وعشرين ألف وتسعمائة كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها 16 مليون نسمة، 58 بالمائة منهم كازاخستانيين، و30 بالمائة من الروسيين، والباقي من الألمانيين والأوكرانيين والكوريين والأتراك، وجنسيات أخرى تصل إلى أزيد من 130 جنسية، وتعتبر اللغة الكازاخية اللغة الرسمية في البلاد، كما تستخدم اللغة الروسية رسميا على قدم المساواة مع اللغة الكازاخية، في مؤسسات الدولة والأجهزة المحلية، وبعدها الإنجليزية فالعربية. ورغم تاريخها القصير نسبيا كدولة ذات سيادة، تعرف كازاخستان، على نطاق واسع في العالم، كمثال مشرق وناجح جدا للطريقة التي يعيش فيها العديد من الجماعات العرقية، وتتعايش سلميا في بلد واحد. فالمسلمون مثلهم مثل المسيحيين مثل باقي الأديان الأخرى، حيث التسامح بين كافة الطوائف، والحرية الدينية من الحقوق الدستورية في كازاخستان، حيث تجد مسجدا بجوار إحدى الكنائس المسيحية والمعبد اليهودي، إذ تنطلق كازاخستان من إرث حضاري عريق وتاريخ يحتضن الحضارة الإسلامية بعلمائها ومفكريها، وعلى رأسهم السلطان الظاهر شاه بيبرس، الجد الأكبر للكازاخ، وسلطان مصر والشام 17 عاما إبان العصر المملوكي، حارس الديار الإسلامية وهازم التتار والمغول في معركة ''عين جالوت''. أما الفيلسوف والعالم الكبير الفارابي الذي أطلق عليه ''المعلم الثاني''، فهو الجد الثاني لأبناء كازاخستان، فالقوة والحكمة هما معيارا فلسفة الحكم في هذا البلد، وتمتزج معالمه ومبانيه بين مختلف دول وحضارات العالم، فتجد برج الاستقلال شبيها بمقام الشهيد في الجزائر، ويبلغ ارتفاعه 90 مترا، وفي أعلاه طابق به دائرة مستديرة عليها توقيع ممثلي الأديان الذين يعقدون مؤتمرهم كل ثلاث سنوات بقصر الوئام الهرمي، ونال البرج صفة الأممية بعد أن وضعته الأممالمتحدة تحت إشرافها ورعايتها. وليس بعيدا عنه، تجد هرم مصر، ومسجد ''نور أستانا'' الذي يشبه كثيرا مساجد دولة قطر التي تحتفظ بالعناصر المعمارية والفنية الإسلامية، ومبنى آخر على طراز متحف التاريخ الروسي، وتجد مبنى وزارة الثقافة على شكل كتاب مفتوح، ووزارة البترول على شكل ولاعة سجائر، ومبنى آخر على شكل رزم عملات ورقية... وغيرها من الأشكال والمجسمات التي تمتع البصر والبصيرة. كازاخستان.. بلاد النفط والذهب والأنهار يبدو أن كازاخستان تلك الدولة الإسلامية الوليدة التي ظهرت من أسر الاتحاد السوفياتي، تشق طريقها بسرعة إلى نادي الكبار في العالم، بمساحتها الشاسعة ومواردها الهائلة في النفط والغاز، وسياسة اقتصاد السوق التي تسير عليها، ومهد لها وشجعها الرئيس نور سلطان نزار باييف، والذي مكنها من أن تتبوأ مكانة متميزة، ليس فقط في آسيا الوسطى بل في العالم أجمع، كجسر حضاري وثقافي بين الشرق والغرب. وتعتبر الثروات الطبيعية واحدة من أهم الثروات التي تتمتع بها كازاخستان، التي تعدّ واحدة من أغنى دول العالم في النفط والغاز والتيتانيوم والمغنزيوم والقصدير واليورانيوم والذهب وغيرها من المعادن، ويوجد بها حاليا 41 حقلا نفطيا بآفاق مستقبلية، ويبلغ معدل احتياطيات النفط بها 7,2مليار طن. كما تعتبر كذلك واحدة من الدول العشر في العالم في تصدير القمح، حيث تصدّر 3 بالمائة من مجموع ما يصدّره العالم من القمح، وتنتج سنويا من القمح 81 مليون طن، حيث تجدها أشبه بسلة الغذاء للعالم، فهناك 051 مليون هكتار صالحة للزراعة، وآلاف الأنهار والبحيرات. وتنافس على المركز الثالث في احتياطي البترول، والموقع العاشر للذهب باستثمارات وصلت إلى أكثر من 061 مليار دولار، في أحلك أيام الأزمة المالية العالمية. وهكذا، استطاعت كازاخستان التي نالت استقلالها في ديسمبر 1991 أن تكون شريكا جذابا للدول المستهلكة وبلدان العبور، حيث يزيد وزنها السياسي بالنسبة للعديد من القوى المؤثرة، مثل أمريكا وروسيا والصين وغيرها. عين على الإعلام وقلب على سوريا تحتضن العاصمة الكازاخية أستانا، كل سنة، أشغال المنتدى الأوروآسيوي للإعلام، الذي ترأسه داريغا نزار باييف، كريمة الرئيس الكازاخستاني. ونظرا لسخونة الأحداث التي تطرأ على الساحة، تحوّلت أشغال المنتدى، في دورته الحادية عشرة، إلى ساحة للعراك السياسي بين الخبراء والسياسيين العرب والأجانب، حيث تصدّرت الأزمة السورية أشغاله، وأدانت غالبية الوفود المشاركة استمرار أعمال العنف والحرب والتقتيل التي حصدت الأخضر واليابس للسنة الثالثة على التوالي، بينما تفنّن الجانب الروسي في الدفاع وتلميع موقف نظام الأسد الذي وصفه ب''المناضل''، وكذا الوفد الإسرائيلي، ما أثار امتعاض وحفيظة الحضور الذين رفضوا تدخله وحديثه عن الأزمة السورية، وتجاهلوا الرد على أسئلته واستفساراته بهذا الشأن، كما رفض المترجمون الكازاخ ترجمة حديثهم. ولفت المشاركون في المنتدى إلى المخاطر التي تواجهها بعض دول الربيع العربي التي تحوّل الصراع فيها إلى صراع ين ثوار طامحين في نظام ديمقراطي والسلطة، إلى صراع مسلح مرير بين جيش تابع للنظام الحاكم وجهات مسلحة تابعة للمعارضة، مشدّدين على المخاطر التي تواجه هذه الدول، في ظل حالة عدم الاستقرار واللاأمن التي تعانيها، واحتمالية استمرار هذا الوضع المتأزم لفترة ليست بالقليلة. وكانت لأحداث انفجاري ماراطون بوسطن نصيب من المدخلات والمناقشات، حيث استنكر سياسيون وخبراء اتهام أمريكا المستمر للمسلمين بتنفيذ العمليات الإرهابية، ووصفهم ب''الإرهابيين''، مؤكدين أن هذه الاتهامات فزّاعة تستخدمها أمريكا لتخويف العالم من الإسلاميين، وتشويه صورتهم وربطها بأعمال عنف وجرائم. من جانبه، تحدث الرئيس الكازاخي، نور سلطان نزار باييف، في كلمته أثناء افتتاح أشغال المؤتمر الذي جاء تحت شعار ''التحوّل الديمقراطي وتحدّيات دول الربيع العربي''، عن تزايد دور وسائل الإعلام أو التحديث التقني والمفاهيمي للوسائل التي أخذت حيّزا كبيرا، وأضحت آلية هامة لتحسين الدول التنافسية نحو العالمية، مشيرا إلى التحدّيات الجامّة التي تواجهها دولة كازاخستان، خاصة الجانب الاقتصادي، والاهتمام بكيفية تطوير ثرواتها وجعلها من أبرز وأقوى دول العالم. وناقش المنتدى الأوروآسيوي للإعلام، على مدار يومين، أبعاد الربيع العربي، ودور مواقع التواصل الاجتماعي في إشعال ثورات الربيع العربي، وكيفية انتقال هذه البلدان من حالة الفوضى إلى بناء الديمقراطية، واتجاه العالم نحو الصراع على الساحة الدولية، والحرب على الإرهاب والانتشار النووي.