ليس هذا العنوان من عندي، ولكنه عنوان لديوان شعر للشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، والطائر الذي يحمل عنوان الديوان يوحي برموز مختلفة، تلتقي جميعها في كشف غايات هذا الطائر الذي يسطو على أعشاش الطيور ويسرق فراخها، وقد ووظفه الشاعر توظيفا أسطوريا، ليكشف من خلاله هوية المحتل الذي يريد أن يبيد الشعب الفلسطيني إبادة حضارية. فما أقرب المسافة بيننا وبين الشاعر، وخاصة عندما نناجيه في بعض مقاطعه حيث يقول ”طائر الوقواق يحتل ترابا من ذهب، طائر الوقواق يحتل السماء، طائر الوقواق يحتل الهوية، طائر الوقواق لص في النهار، يسرق التفاح من أرواحنا ثم الهواء”، ما أكثر ما ظمئت سرائرنا إلى الماء القراح؟ وما أكثر ما جاعت إلى الحقيقة. فلنقترب من الطائر الوقواق، ولنستمع إلى أغانيه من خلال هذا المقطع، وندلج في ليل مظلم ما تبدى قمره. لنرى ما أكثر مغالطتنا للحقائق؟ لأن الوقواق يحاصر ذاتنا ويلوث كل تصوراتها، ويجفف كل ينابيعها النوفمبرية، ولا يترك لها أي فرصة للصفاء والنقاء، إنه يختلس المادة والمعنى، ويشوه كل فضاءات الجمال والحياة ويعيد جدولة تاريخ الملحمة وبذلك تمتد أخطاره إلى الهوية والعقول. ومن أسطورة ”الوقواق” التي وظفها المناصرة توظيفا في غاية الإبداع يحرك فينا مشاعر اليقظة، وخاصة عند الإيحاءات الشعرية التي تحول هذا الطائر إلى كائن مخيف يلاحق الإنسان ويخنقه ويكبت حريته، لكي يخطف كنوز ملحمته السحرية، ويبدد ثرواته ويشع الفاحشة الحضارية في مجتمعه، ولا يترك أي عنصر حياة في الأمة، لتصبح بمثابة القرية الظالم أهلها، خاوية على عروشها، حيث تهرب منها طيور الجمال والإنشاد الملحمي، لتحل محلها طيور أسطورية رهيبة الشكل والوظيفة، تؤدي وظيفة تدميرية، مع تعفين كل الأجواء والفضاءات، لكي تصنع بطولات شريرة، تواجه بطولة هذه الأمة، وهذا الطائر البطل يجسد كل ما هو عكس القيم، ومهمته في ذلك أن يكون الفساد مجسما، والشر قاعدة لا استثناء، وأن يكون حاجزا مزيفا لكي يوقع بالأمة دائما وباستمرار. وتذهب بعض السير إلى أن تجعل من ”الوقواق” بطلا قدريا رصد لإعاقة مسيرة الأمة. وبذلك يمزج الطائر الوقواق بين حكايته في التاريخ، في الواقع، وبين محاولات البطل الشرير لإعاقة مسيرة أبطال الخير في السيرة الشعبية. فهل يستطيع هذا الطائر أن يديم الأزمة الحضارية ويجدد مآسيها؟ أو يستمر في تعفين الجراح؟ وهل يظل يحاصر قيمنا، ويضلل أبناءنا بوعود مزيفة؟ وهكذا تتداخل أسئلة الواقع المرير مع أسئلة الأسطورة بحثا عن المخرج، إنه طرح يدلي بألفاظ أسطورية في مجتمع غير أسطوري، فالوقواق جعلنا نعيش كل حياتنا في رضاعة عقلية ونفسية لا نريد الفطام منها وأصبحنا نفضل الرضاعة من الأثداء المسمومة. ماذا أصابنا ماذا حل بنا؟ أنحن هائمون على وجوهنا في نفق مظلم لا ضوء فيه؟ في تقديري أنه لا يشق على طارح الأسئلة الجواب عنها، فنحن الورثة لمن يغط في سبات عميق، ولمن لفتهم تضليلات الوقواق، إنه القلق كلما أصابنا عذاب، ولكنه عذاب خلاق ولا خلق بدون عذاب، فالخلق تضحية أو عملية فدائية يتحملها الخالقون بشهامة وحب وصداقة ومنطق من أجل جزائر نوفمبرية أصيلة من أجل ملحمتها من أجل تطهيرها من براثن الفساد. إن ”الوقواق” يهدف فيما يهدف إليه سلب الأمة كل ملحمتها وكل خيراتها، ثم يعبئ كل الأجهزة ووسائل الدعاية لإذاعة أمجاد هذه الملحمة والتدليل على شرف ذلك وعلى ما فعل من أجلها، إن الوقواق يعمل على حرمان الأمة جميع تعبيرات الحرية ثم يكرهها على أن تتحدث بافتضاح وهوان على الحرية والعزة التي تعيشها والتي لم يسبق أن عاشتها من قبل تحت شعار ماسوني ”جزائر العزة والكرامة؟”. إن أي وقواق ليجد لذة أقوى من لذة الجنس حينما يجد نفسه يستطيع أن يتحدث عن احتياجات الأمة وأمانيها، وإن التفرد بذلك متعة تغرق الوقواق في نشوته وسكرته الأثيمة، بل يجد في ذلك على أنه القادر الفاعل الحر المالك لكل شيء حتى للكلام والتعبير عن الأماني والهموم والآلام التي تعيشها الأمة الضارعة والغارقة في محنتها. وبذلك يكون كلام ”الوقواق” نوعا من الإهانات والشتائم يلقي بها على رؤوس الموعودين وعلى كرامتهم وكبريائهم، وأن الموعودين عنده ليسوا إلا أطفالا أو عبيدا أو ضعفاء مغلوبين على أمرهم. لهذا لا أثق ب«الوقواق” لأنه في كل تعبيراته تحقير للأمة وإهانة لكرامتها، واعتصار لرخائها وحياتها، ولأنه أيضا كبرياء مشلول، وجنون طغياني، ولأنه مغامرات وتآمر، وبذلك أرفض أن تتحول أمتنا الملحمية كلها إلى أصوات وقصائد وأناشيد وهتافات بلهاء تكررها كل الأجهزة والحناجر. وهكذا فالطائر ”الوقواق” بعدما أدى المهمات السابقة يصل إلى درجة الاحتضار التي تؤدي بالأمة إلى الانتحار وتصبح كالمرأة الفاجرة التي تأتيها الكلاب من كل ناحية. وما يقع في دول الجوار الحضاري خير دليل على ذلك أن ”الوقواق” قد أدى مهمته فيها وانتحر وانتحرت معه الأمة بفتن قاتلة متوقعة، وأرض الملحمة النوفمبرية ليست استثناء ولكنها تنتظر الدور وتتخبط احتضارا باحتضار الطائر الوقواق الذي أدى المهمة وهو يحتضر. إن الأوضاع في جزائر دعاة التمديد والتجديد غريبة، وأحيانا غليظة.. فساد مستشري ومبرمج، فقر مدقع، نزاعات جهوية تختلط وتمتزج أفكار الضباب لا ملمح لها. وهذا الضياع كله مسلح، وأبسط سلاحه المال المختلس، وأعلاه مخابر أسلحة المكر الدولي المتصهينة، التي تتربص بنا الدوائر بإيعاز من الوقواق. والصدمة.. إن شأنها التفكير بصورة معاكسة لما اعتدنا التفكير به وفيه أوله: إنما يتهددنا هو ثمرة سيئة ومدمرة لكياننا في التاريخ والجغرافيا، هذه الثمرة التي ولدت الانقسامات وإشاعة الفاحشة السياسية لكي تخلو لها الساحة. هذا هو كياننا يشهد بنفسه على نفسه من حيث سكوته وعدم مبالاته لما يجري حوله. لنفكر إذا بطريقة جديدة ومختلفة توقف كياننا من غفلته وتجره من آماله المزيفة، فالانهيارات والصدمات تحمل على تجديد الفهم والتأويل، أو على تغيير معايير التقييم، إنما يحدق بنا أخطر وأدهى وأمر. هل حرام علينا أن نفضح ”الوقواق” وأذياله والمتآمرين معه؟ من بعض الشخصيات المصنوعة التي تمارس معه البغاء السياسي في سرية تامة والأم ستكشف ذلك؟ ما قيمة الكلمة المأدبة إذا الواقع أدهى وأمر؟ ما قيمة المهنية أو الاحترافية الإعلامية مع متآمرين بوجوه مستعارة؟ والتساؤلات كثيرة. هذا ما يجعل الصيحة الواعية كمحاولة في تجريبية في البحث عن لغة مشتركة - تفكيرا وتعبيرا - بين الاتجاهات الوطنية الشريفة والمرتبطة بقيم هذه الأمة، والتي أزيحت من الساحة السياسية ظلما وعدوانا، لنبحث بمرجعية نوفمبرية مشتركة عن آفاقنا المسدودة ونكشف الأطراف التي تريد أن تعبث بمصير هذه الأمة. اللهم جنب أرض الملحمة النوفمبرية هذا المآل الدرامي، واجعل كيد الطائر الوقواق في نحره.