أحرصُ في البداية أن أشير إلى أنني أقدّم هنا قراءة "متأنية" في قانون السمعي البصري، من منطلق أن مواد هذا القانون وبنودَه توحي بأن من عكفوا على إعداده حرصوا على "التأني" في فتح مجال السمعي البصري، باعتبار أن نص مشروع القانون يمثل ما يشبه "مرحلة انتقالية" بين الوضع الحالي والأوضاع التي تنشأ مستقبلا بعد إقراره، كما أنني لا أريد من جانب آخر أن أكون "متسرعاً" في إصدار حكم أو تسجيل موقف إزاء نص قانوني، مطروح حالياً للنقاش والإثراء. بصرف النظر عن كون الجزائر كانت رائدة- نظريا على الأقل- في مجال حرية التعبير والصحافة من خلال قانون الإعلام الصادر عام 1990. وبصرف النظر أيضاً عن المعطيات السياسية والاجتماعية، خلال عقدين من الزمن، والتي أدت إلى شعورنا كإعلاميين بنوع من التراجع ”المبرر سياسيا” و«غير المفهوم مهنيا” في الممارسة الإعلامية في الجزائر. بصرف النظر عن كل هذا، فإنني أسجل بكل إيجابية أن مشروع قانون السمعي البصري يمكن اعتباره ”خطوة أولى” في مسيرة الألف ميل التي تبدأ دائماً بخطوة. ولكي لا تتعثر هذه الخطوة عند انطلاقها، يتوجب علينا- كمهنيين وكإعلاميين- أن نقف عند مشروع نص هذا القانون حتى يتمكن السادة النواب- وفيهم رجال قانون، ومثقفون، وإعلاميون- من النظر فيه، والعمل على تدارك نقائصه. أقدّم للقارئ ملاحظاتي هذه، كإعلامي وكمهني في مجال السمعي البصري: صحفيا، ورئيس تحرير سابق في التلفزيون، ثم منتجاً مستقلا- خارج مؤسسة التلفزة- منذ العام 1994 إلى يومنا هذا، مع الإشارة إلى أنني أتحدث هنا عن اطّلاع على قوانين مماثلة في بلدان شقيقة أو صديقة. الملاحظة الأولى: أولا: يطرح المهنيون والمهتمون بالسمعي البصري إشكالية هامة تتمثل في تقييد المؤسسات والشركات الخاصة بإنشاء قنوات موضوعاتية (متخصصة) فقط، دون إمكانية إنشاء قنوات عامة، حيث يجعل نص مشروع القانون إنشاءَ القنوات العامة حكراً على الهيئات والمؤسسات وأجهزة القطاع العمومي، استنادا للمادة 63 من القانون العضوي المتعلق بالإعلام، وهو في الحقيقة أمر غير مفهوم وغير مبرر، بالنظر إلى أن المادة 8 من مشروع قانون السمعي البصري تتحدث عن اضطلاع القطاع العام بمهام الخدمة العمومية في إطار المنفعة العامة، وفي هذه الحالة فإن إنشاء القنوات الموضوعاتية المتخصصة هو من صميم الخدمة العمومية ويقع على عاتق القطاع العام وحده، وهو ما يندرج في باب إرضاء مختلف الشرائح الاجتماعية وتقديم خدمة عمومية لها بإنشاء قنوات موضوعاتية متخصصة: للطفل، وللمرأة، وللشباب، وللرياضة، وللفكر، وللتعليم الخ.. وبالتالي فإن القطاع الخاص غير ملزم بِحَبسِه في قفص القنوات المتخصصة التي تحدّ من الحرية التي ينص عليها قانون الإعلام وقانون السمعي البصري، كما أن هذا النوع من القنوات لا يمكن أن يضمن التنوع الذي يتحدث عنه مشروع القانون في ديباجته المسماة ”عرض الأسباب”، بالإضافة إلى أنه يتناقض مع مبدأ ”فتح مجال السمعي البصري للاستثمار الوطني” الوارد أيضا في الديباجة، لأنك لا تستطيع- من الناحية الاقتصادية- أن تستثمر في الرياضة وحدها أو الطفل وحده أو المرأة وحدها، طالما أن القنوات تستمد حياتها من الإشهار، والمعلنون لن يتجهوا لتمويل قنوات متخصصة محدودة الجمهور، وبالتالي سيسقط مبدأ تكافؤ الفرص بين القطاعين العام والخاص. ثانيا: عندما وجد معدّو مشروع القانون أنفسهم محصورين في خانة القنوات الموضوعاتية بالنسبة للقطاع الخاص، تبعاً لقراءتهم لنص المادة 63 من قانون الإعلام، اضطروا لتحرير المادة 17 من مشروع قانون السمعي البصري على النحو التالي: المادة 17: تعدّ خدمة للاتصال السمعي البصري مرخص لها، كل خدمة موضوعاتية تنشأ بموجب مرسوم وفق الشروط المنصوص عليها في أحكام هذا القانون. ثم وضعوا نقطة على السطر، وانتقلوا للسطر الأسفل فأضافوا العبارة التالية: ”يمكن السماح بإدراج حصص وبرامج إخبارية وفق حجم ساعي يحدد في رخصة الاستغلال”. وهنا تطرح التساؤلات والاستفهامات التالية: هل تم تعمّد حصر القطاع الخاص في القنوات الموضوعاتية أثناء إعداد قانون الإعلام بغرض استبعاد القنوات الإخبارية التي تتخصص عادة في تناول الشأن السياسي، وما يمكن أن تثيره من تخوفات في صناعة الرأي العام أو توجيهه، ثم وقع التراجع بعد ذلك في تعريف القنوات الموضوعاتية بإضافة هذه الجملة، بعدما برزت تجارب القنوات الإخبارية الخاصة- عقب صدور قانون الإعلام-؟ ذلك أنه من غير الطبيعي ومن غير المنطقي أن يتم تحديد (السماح بإدراج الحصص الإخبارية) دون سواها من الحصص الدينية أو الفكرية أو الرياضية، ألا تندرج القنوات الإخبارية في القنوات الموضوعاتية مثلها مثل كل الموضوعات التي أشرنا إليها (الطفل، المرأة، الدين، والرياضة.. الخ)؟ والخلاصة أن المخرج المناسب لهذه الإشكالية هو إعادة ”قراءة قانونية” معمقة في الفصل المتعلق بممارسة النشاط السمعي البصري الوارد في القانون العضوي للإعلام، وتكييف مشروع قانون السمعي البصري بما يجعل من الترخيص (الذي يمنح بموجب مرسوم) ترخيصا يشمل كل أنواع القنوات (عامة وموضوعاتية)، وذلك بالاستناد للمادة 61 التي تنص على أن النشاط السمعي البصري يمارس من قِبل الهيئات العموميات والشركات الخاصة دون أي تحديد مشروط، وبالتالي حذف المادة 5 من مشروع قانون السمعي البصري التي تنصّ على أن (خدمات الاتصال السمعي البصري التي ينشؤها الخواص تحدد في القنوات الموضوعاتية فقط). الملاحظة الثانية: يقدّم الفصل الثاني من مشروع القانون، بدءا من المادة 7 تعاريف ومفاهيم للمصطلحات التي يتضمنها مشروع القانون، بعضها ورد في صميم النص، وبعضها تم إقحامه دون أن ترد أي إشارة إليه، لكن المصطلح الذي أريد أن أتوقف عنده هو مصطلح (السلطة المانحة) التي تعرفها المادة 7 بما معناه: ”هي السلطة التنفيذية الموقعة على المرسوم المتضمن رخصة لإنشاء قناة لصالح شركة جزائرية خاصة”، والتساؤلات التي يطرحها هذا المصطلح هي: أ- من هي هذه السلطة المانحة؟ هل هي الحكومة مثلا؟ وبالتالي فإن الأمر يتعلق برخصة تمنح بموجب مرسوم تنفيذي، لأن طبيعة المرسوم غير محددة، ما إن كان مرسوما تنفيذيا أو رئاسيا، ما يطرح تساؤلات حول مدى استقلالية سلطة الضبط التي يصفها القانون في ديباجته أنها سلطة مستقلة، مثلما ينص عليه قانون الإعلام في المادة 64. ب- ألا يمكن اعتبار هذه السلطة المانحة هي سلطة موازية لسلطة الضبط وتحد من استقلاليتها؟ لأن مهمة سلطة الضبط في نص القانون تتمثل في كونها تستقبل طلبات الترشح لإنشاء قنوات وتبتّ فيها، لكن وجود سلطة مانحة يعني أن هذه السلطة هي التي تبتّ في الطلبات بالقبول أو الرفض وليست سلطة الضبط. ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الفصل الذي يقدّم التعريفات والمفاهيم لا يقدّم تعريفا لسلطة الضبط ولا يشير إليها، وكان من الواجب أن يعرّفها، لأن الباب الثالث الذي يتحدث لاحقا عن سلطة الضبط لا يقدّم أي تعريف لها، بل يتحدث فقط عن مهامها وصلاحياتها. وحتى لا نبتعد عن مهام سلطة الضبط، فإنه يجب التوقف عند صلاحياتها في مجال الضبط، حيث نلاحظ أنها تمنح مهلة 6 أشهر للشروع في بث القناة بعد الحصول على الرخصة، بينما لا تتحدث عن تحديد آجال للفصل في طلبات الترشح بالقبول أو الرفض أو حتى بإلزامية الردّ على الطلبات، وعليه ينبغي تدارك هذه النقطة بتحديد أجل للبتّ في الطلب مع تعليل الرفض في حال وجوده، طالما أنها في المادة 28 تتحدث عن تعليل الرفض في حال طلب تجديد الرخصة بعد انقضاء 10 سنوات من الحصول على الترخيص بالنسبة للقنوات التلفزيونية. والخلاصة في هذا المحور أن قراءةً في مهام سلطة الضبط- في مختلف المجالات التي يحددها المشروع- تعطي الانطباع بأنها تؤدي دور المراقب على حساب دور المرافق. وصحيح أن قانون السمعي البصري هو خطوة أولى تخطوها البلاد باتجاه فتح فضاء واسع- مشوب بكل الاحتمالات- تتطلب آلية تتولى مهمة ضبط الأمور كما هو معمول به، إلا أنه كان ينبغي أن تضع في صدارة مهامها: مهمة مرافقة القنوات التي سيتم إنشاؤها، مرافقة قانونية ومعنوية وحتى مادية، ضماناً لإنشاء قنوات ذات مصداقية تضيف قيمة أخرى للجزائر من جهة، وتكريساً لأداء مهمة الضبط بما ينسجم مع روح المادة 2 من قانون الإعلام، والمادة نفسها من مشروع قانون السمعي البصري من جهة أخرى، بحيث تؤدي سلطة ضبط السمعي البصري ما يماثل الدور الذي تؤديه سلطة ضبط الاتصالات السلكية واللاسلكية. الملاحظة الثالثة: يتحدّث المهنيون والمعنيون بقطاع السمعي البصري عن تشكيلة سلطة الضبط التي يتم تعيين أعضائها من جهات مختلفة في الدولة دون أن يكون في صفوفها منتخبون من الأوساط المهنية، والواقع أنه من المستحيل إدراج هذه الرغبة المشروعة في نص القانون، ذلك أن الوسط المهني في السمعي البصري وحتى في الصحافة المكتوبة غير محدد المعالم وغير منظم الصفوف، رغم وجود العديد من المنتجين الخواص، وبعضهم لا علاقة له أصلا بالمهنة، وأنتم تعرفون أن تأخر تشكيل سلطة ضبط الصحافة المكتوبة بعد قرابة عامين من صدور قانون الإعلام سببه هو عدم التمكن من انتخاب ممثلين من الإعلاميين، بالنظر لعدم وجود نقابات تمثيلية شاملة أو واضحة الأسس القانونية، ولذلك فإن الاقتراح الموضوعي لتجسيد هذه ”الرغبة المشروعة” هو أن يتم انتخاب رئيس سلطة الضبط من بين مجموع الأعضاء التسعة المعينين، بعد إيجاد آلية لذلك بالتنسيق مع وزارة الاتصال، حتى يتمتع رئيس سلطة الضبط بالاستقلالية اللازمة- ولو شكليا- تجسيداً لاستقلالية سلطة الضبط التي يترأسها. الملاحظة الرابعة : أعتقد أن المادة الأخيرة في مشروع القانون هي أخطر من كل المواد التي أشرنا إليها، حيث تتحدث المادة 106 في الباب المتعلّق بالأحكام الانتقالية والنهائية عن إسناد مهام وصلاحيات سلطة الضبط لوزير الاتصال إلى حين تنصيبها، دون تحديد أي تاريخ للتنصيب، رغم عدم وجود عوائق تؤخر تشكيلها مادام أعضاؤها كلهم معيّنون، وهو ما يتناقض تماما مع حرص القانون على الشفافية في منح التراخيص، ويتناقض أيضا مع مبدأ استقلالية سلطة الضبط، حيث يُمكن- مثلا- أن يقع تعمّد تأخير تنصيب سلطة الضبط، ويتم بموجب هذه المادة منح الترخيص للقنوات الجديدة، ثم يُغلَق الباب بعد ذلك بتنصيب سلطة الضبط التي تجد نفسها عندئذ تؤدي دور المراقب المتفرج فقط، وأقترح في هذا الشأن أن يتم الاستغناء عن هذه المادة تماما، لأن فضاء السمعي البصري الحالي في الجزائر حاليا يضم القنوات العمومية فقط، وبالتالي فلسنا في حاجة لمرحلة انتقالية وأحكام انتقالية، بل يجب أن تنص المادة بشكل صريح على تنصيب سلطة الضبط في أجل أقصاه شهرين من نشر قانون السمعي البصري في الجريدة الرسمية. وبعد: فإنني أسجل- كإعلامي وكمهني- أن مشروع قانون السمعي البصري هو خطوة إيجابية نحو تحرير هذا الفضاء في بلادنا، ومنح حرية أكبر وأشمل وأوسع للشعب الجزائري الذي أصبح يَعُد قرابة 40 مليون نسمة، متعددي المشارب والأهواء والأفكار، خصوصا وقد أصبح من المستحيل إرضاء آذان الناس وأسماعهم بلحن واحد ونوتة واحدة متكررة، أمام سماء مفتوحة علينا بأصواتٍ أغلبها نشازٌ لا تستسيغه الأذن الجزائرية المتفردة بخصوصياتها التاريخية والاجتماعية والدينية والفكرية والثقافية، وهو ما يضع السادة النواب أمام مسؤولية تاريخية جسيمة في تقنين السمعي البصري في الجزائر بما يراعي خصوصياتنا كجزائريين، وتطلّعاتنا كمهنيين.