أثارت ظاهرة توجّه الجزائريين إلى القنوات المشرقية، على وجه الخصوص، لاستفتاء "مشايخها" قلقا كبيرا في الجزائر حتى صارت تدرج ضمن الأزمات التي تعانيها البلاد. وترجع بعض أسباب الظاهرة- برأي البعض- إلى غياب مرجعية فقهية وطنية توفر قاعدة مرنة تتماشى وخصوصية المجتمع الجزائري ووحدته المذهبية، وهو ما أعاد الحديث مجددا عن منصب مفتي الجمهورية الذي أسال الكثير من الحبر ولم يتم تعيينه لغاية اللحظة. تقاطعت آراء هؤلاء على ضرورة تعيين مفتي الجمهورية، وهو المنصب الذي بقي مشروعه معلقا منذ فترة طويلة ولم يتم تعيين شاغله لغاية الآن، وهو الكفيل بالتخفيف من حدّة التوجه بالفتاوى إلى خارج الوطن، على أن يكون هذا الأخير يتميز بالصدق لدى الناس إضافة إلى العلم والخبرة اللازمة، كما شدّد بعضهم على تعيين مفتي بكل ولاية تسهل عمل مفتي الجمهورية وتكون بمثابة لجنة مساعدة له. وقد أضحى المئات من المواطنين الجزائريين، في الآونة الأخيرة، يتوجهون إلى الفضائيات العربية عامة، والمشرقية خاصة، بحثا عن فتاوى، حتى التي تعلّق منها بالشؤون الأسرية والاجتماعية، وكأن العائلات الجزائرية أصبحت لا تثق في الفتاوى والمفتين الجزائريين، رغم الأسماء الكبيرة والوجوه الدينية المعروفة في البلاد. ظاهرة أرجعها بعض المفتين والأئمة الجزائريين إلى حب التنوع في الفتوى، وآخرون تحدثوا عن ”مركّب نقص” لدى بعض الأشخاص، فيما يعتبرها البعض مؤشرا سلبيا على وحدة وتماسك الجزائريين. قال الشيخ أبو عبد السلام إن السبب الذي جعل الجزائريين يتوجهون بفتاويهم إلى مشايخ ومفتين من المشرق العربي هو انعدام الثقة في المفتين الجزائريين، ”رغم أن هناك عددا كافيا وكما هائلا- ما شاء اللّه- منهم في بلدنا يستطيعون الإجابة عن أسئلة وفتاوى الجزائريين”. ”مغنّي الحي لا يطرب” وحاول فضيلة الشيخ تفسير سبب توجيه الجزائريين لفتاويهم لعلماء ومفتيي بلدان أخرى، بقوله ”مغنّي الحي لا يطرب”، حيث إن هناك من الجزائريين– حسبه- من يريد تنوعا في الفتاوى من علماء ومشايخ البلد وخارجه، إلا أنه يرى أنها يستوجب أن تكون لمشايخ البلد، لأن هؤلاء هم الأعلم بالتقاليد والعادات. واغتنم الشيخ أبو عبد السلام الفرصة لتوجيه النداء للشعب الجزائري بوضع الثقة في مفتيي الجزائر، لأنهم الأعلم بعاداتها وتقاليدها لذا فهم الأولى في نظره. من جهته، قال نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومفتي تلمسان، الشيخ بن يونس آيت سالم، بأنه ”لابد أن يعلم إخواننا في الجزائر أن بلدنا فيه علماء وفقهاء ومفتون يستطيعون التوجه بالأسئلة إليهم، لأن المستفتي إذا أراد أن يعرف حكما شرعيا عليه بالتوجه لمفتيي البلد الذي يعيش فيه”. كما يرى الشيخ بن يونس أنّ الفتوى يجب أن تكون في الأمور التي وقعت وليس الأمور التي لم تقع، كما لابد أن يبحث المستفتي عن العالم الصالح، وهو من كان عالما صادقا ورعا ومعروفا بالعدالة عند الناس، عارفا بواقعهم وأعرافهم، وما هو معلوم عند أهل العلم بأن الفتوى تتغيّر بتغيّر المكان والزمان، وكذلك الأعراف، والجواب الصحيح يكون على العلم الصحيح والفهم الجيد والعلم بالأعراف والعادات والتقاليد لبلد المستفتي. وضرب الشيخ مثالا عن الإمام مالك بن أنس رضي اللّه عنه عندما سئل مرة عن شؤون اجتماعية، حيث أحال الإمام سؤاله إلى مفتين من أهل بلد السائل لأنهم في نظره الأعلم بعادات وتقاليد بلدهم. وأضاف محدّثنا بأن العالم المفتي في القضايا المتعلّقة بالأسرة عليه أن يكون عالما بالأعراف، ولو كان من أكبر العلماء فلا يجيب عنه بالصحيح إلا إذا كان هذا الأخير ملمّا بواقع وأحوال بلد السائل، وحتى بعض الألفاظ تتغيّر، لذا على السائل أيضا أن يتوجّه إلى عالم من بلده، لأنه وحده من يعرف عاداتهم وتقاليدهم. ”استفتاء علماء البلد خير من استفتاء علماء من خارجه” كما أرجع الشيخ سبب توجّه العائلات الجزائرية للفضائيات والمفتين المشارقة، و«الذين أكنّ لهم كل الاحترام والتقدير”، بأن هناك أفرادا يقولون بأن الجزائر لا تملك علماء لأنهم– في نظره- لهم مركّب نقص وهو ما جعلهم يقولون ذلك، كما أن ”على قنواتنا الوطنية ومختلف وسائل الإعلام الجزائرية بأن تعمل على التشهير بأئمتنا وعلمائنا بالجزائر، مثلما تقوم به القنوات العربية والمشرقية حتى يكسبوا ثقة الشعب الجزائري”. واختتم الشيح آيت سالم كلامه بأن دعا أبناء الأمة الجزائرية بالالتفاف حول علمائهم واستفتائهم لأن ذلك، حسبه، أفضل لهم من استفتاء علماء بعيدين عنهم بآلاف الكيلومترات. أما أستاذ علوم الشريعة بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة، عبد العزيز بن السايب، فقد أرجع ذلك إلى عوامل تاريخية وأخرى ثقافية أدّت إلى نقص الكفاءة العلمية، وجعلت العائلات الجزائرية تتوجه بأسئلتها إلى القنوات الفضائية وعلماء المشرق العربي. وقال الشيخ عبد العزيز إن أسباب توجّه الجزائريين بفتاويهم إلى علماء المشرق العربي تعود إلى الفترة الاستعمارية التي دامت 132 سنة، إضافة إلى العشرية السوداء والإرهاب، حيث أثّر كل ذلك كثيرا في المستوى الثقافي، ”كما أن الدولة الجزائرية هي المسؤولة عن هذا بسبب انعدام الترغيب والمكافآت والتحفيزات، بالإضافة إلى الفصاحة والبلاغة التي يتميّز بها العلماء المشارقة جعلت الجزائريين يتوجهون بفتاويهم إليهم”. مشايخ من الجزائر والسعودية ل”الخبر” المفتي مطالَب باحترام أعراف البلد اتّفق مشايخ من الجزائر والمملكة العربية السعودية على أنّ ”العامي لا مذهب له، وإنّما مذهبه مذهب مُفتيه”، ودعوا المتصدّر لمنصب الإفتاء عبر الفضائيات إلى احترام خصوصيات وأعراف بلد السّائل. الجزائر: عبد الحكيم ڤماز الدكتور يوسف بلمهدي ”المجالس العلمية عبر الولايات تحُلّ مشاكل النّاس في الفتوى” اعتبر الدكتور يوسف بلمهدي، مدير التّوجيه الدّيني والتّعليم القرآني بوزارة الشؤون الدّينية والأوقاف، أنّ الأصل حسب ما يقوله الفقهاء أنّ ”العامي لا مذهب له، ومذهبه مذهب مُفتيه”، لأنّه ”يستفتي أيّ عالم من علماء الّذين يلتمس فيهم الخير، ويجد عندهم العلم الكافي لحلّ مشكلته”. وشدّد مدير التّوجيه الدّيني والتّعليم القرآني على حرص شيخ الفتوى أو المتصدّر لمنصب الإفتاء على ”معرفة بلد وأعراف المستفتي”، حتّى ”يمكنه أن يتواصل معهم وأن يَحُلّ مشكلتهم”، مشيرًا إلى أنّ ”الكثير من الحُذّاق في الفتوى يُحيلون السّائل إلى عالم بلده، ويقولون استفتي أئمة بلدك وهم يُعطونَك الحلّ المناسب، باعتبار أنّ الأعراف تختلف”، موضّحًا أنّ ”العُرف الشّرعي مصدر من مصادر التّشريع”، مستدلاً بقاعدة أصولية ذكرها العلامة ابن القيم رحمه اللّه في كتاب ”إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين”: ”مَن لم يعرِف أحوال النّاس وعوائدهم لا يمكن أن يكون مُفتيًا”، وهذا حتّى ”لا يوقِعَ النّاس في مأزق لا يستطيع أن يحلّ به المشكل”. وذكّر الأستاذ بلمهدي المتصدّرين للفتوى عبر الفضائيات، بأنّ الفُتيا هي ”إعانة للسّائل على حلّ مشاكله، سواء تعلّقت بالعبادات أو بالمعاملات”، وأضاف ”قد يخطئ الإنسان في عمل من العبادات أو المعاملات، وبالتالي يحتاج إلى فقيه يأخذ بيده ويقوّي جَلده حتّى يكون على سَنن الحقّ”. ومن أجل تنبيه المفتين والمستفتين لهذا المشكل، أوضح المتحدث أنّه وإطارات من الوزارة طرحوا هذا الإشكال في موضوع الفتوى عبر الفضائيات، في ملتقى الفتوى لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية، مذكّرًا أنّ جميع الحاضرين من علماء المسلمين اتّفقوا على ذلك ولا يوجد مَن يخالف هذه القاعدة. وحمّل أستاذ الشّريعة بجامعة المسيلة ”المفتي” الّذي يجيب المستفتي بغير ما في مذهب بلده ”المسؤولية”، وأضاف ”يُفتَرض بك أن تقول له أنتَ في بلدك تقولون هذا الأمر، فأنصحك أن تأخُذ هذا الحكم الشّرعي”. وأكّد الدكتور يوسف أنّ ”توحيد الفتوى والرّجوع إلى مرجعية واحدة مطلوب شرعًا”، موضّحًا أنّ الوزارة ”تعمل وتسعى دائمًا إلى تفعيل دور المجالس العلمية عبر الولايات الّتي فيها مفتي إمّا برتبة دكتور أو أستاذ في الجامعة أو شيخ زاوية من العلماء الأكفاء في الوطن”، موضّحًا أنّ ”تفعيل هذه المجالس سيحُلّ مشاكل النّاس في الفتوى”. وكشف أنّ منصب إمام مفتي في الكثير من الولايات ”لم يُعَمَّم بعد”، مشيرًا إلى أنّ ”جمع رؤى هذه المجالس العلمية ورؤساء المجالس العلمية ورؤى هؤلاء الأئمة المفتين لاشكّ أنّه يتمخّض عنه مجلس وهيئة وطنية مركزية تُعنَى بشأن الفتوى”، وبالتالي ”تحتاج إلى مَن يقودها”. الدكتور صالح بن عبد اللّه بن حميد أدعو السّائلين إلى استفتاء علماء الجزائر أفاد إمام وخطيب المسجد الحرام والمستشار بالديوان الملكي بالمملكة العربية السعودية، فضيلة الدكتور صالح بن عبد اللّه بن حميد، أنّ العالم الآن أصبح قرية واحدة ”بل شاشة واحدة”، مشيرًا إلى أنّ مَن يستمع إلى فتاوى علماء، سواء من الشرق أو الغرب، ”لا يمكن حجبه”. وشدّد المستشار بالديوان الملكي السعودي، في إجابته على سؤال ”الخبر”، على أنّ ”العامي لا مذهب له، وإنّما مذهبه مذهب مُفتيه”، في إشارة منه إلى رفع الحرج عن الفتاوى الّتي يفتي بها علماء من المملكة العربية السعودية عبر الفضائيات الدّينية الخليجية، موضّحًا أنّ ”العلماء قالوا إنّ العامي يستفتي مَن يثق في دينه وأمانته”. ودعا الشيخ صالح بن حميد المواطنين الجزائريين، وخاصة منهم السّائلين، إلى استفتاء علماء الجزائر، لأنّهم ”أعرف بالظروف وأعرف بالأعراف والعادات كما العلماء”. الشيخ محمد مبدوعة ”تعلّق الحركات الإسلامية بالفكر المشرقي نتج عنه اتّباع فقهي” أكّد الشيخ محمد مبدوعة، شيخ مدرسة الإمام مالك للدراسات القرآنية، بهراوة في الجزائر العاصمة، أنّ هذه ”الظاهرة ذات أبعاد كبيرة” نتجت عن ”خلل في المنظومة الفكرية منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا”. وعزَا شيخ مدرسة الإمام مالك للدراسات القرآنية ذلك ل«السياسة العامة الّتي انتهجتها الدولة، والّتي لم تحظ بالعناية الدّينية بالمعنى المنهجي الّذي يحافظ على المرجعية الموجودة في هذا البلد”، إلى جانب ذلك ”تعلّق الكثير من الحركات الإسلامية بالفكر المشرقي الّذي نتج عنه اتّباع فقهي”. وأفاد الشيخ مبدوعة أنّ حلّ هذه الظاهرة يتمثّل في أن تكون هناك ”منظومة تكوينية خاصة بالسلك الدّيني على المستوى القاعدي”، داعيًا إلى ”التّركيز التام في المنظومة التّكوينية، سواء على مستوى المعاهد أو الجامعات”، إلى جانب ”الانضباط بالنسبة للشيوخ والأئمة الّذين تبوأوا هذا المنصب الجليل الّذي يعتبر مسؤولية فقهية وفكرية كبيرة”، باعتباره يتعلّق بالمرجعية العامة للأمّة. واعتبر المتحدث أنّ ”إجابة المفتي على أسئلة المستفتي الّذي يبذل المال الكثير والانتظار الطويل على خطوط الهاتف لمجرّد سؤال بسيط في الطّهارة أو الصّلاة أحيانًا تكون الإجابة مبهمة”، مرجعًا ذلك إلى ”عدم مراعاة المفتي عبر الفضائيات الدّينية أو غيرها لأعراف البلد الّتي تنطلق من مواطنة ذاك السّائل”. وشدّد على أنّ هذا العالم المشرقي، سواء كان في الخليج أو الشرق الأوسط، إذا لم يكن محيطًا بمذهب الإمام مالك وأعراف المستفتين ”لا يستطيع أن يعطي الجواب الشّافي والكافي”.