لم تكن تلك "المائدة المستديرة" التي التف حولها رموز المعارضة بأحزابها وبشخصياتها الوطنية لتكتمل سلسلتها لولا "رابعة بوتفليقة".. وأخيرا قلبت المعارضة خيبتها يوم 17 أفريل إلى "نصر"، أو على الأقل هكذا فسر رموز ندوة الانتقال الديمقراطي الدافع لالتئامهم في عمق "خيمة" كبيرة، غربي العاصمة، تسببت حرارتها الداخلية في صياغة خطابات ساخنة، وضعت فيها النظام فوق طاولة الاتهام وسط دائرة عريضة، لتبدأ فصول "محاكمة".. أخيرا حققت المعارضة بالجزائر، حلم اللقاء، بتحقق انعقاد ندوة الانتقال الديمقراطي، بحضور مكثف لأحزاب المعارضة، بفندق “مازافران” غربي العاصمة، فالتحق بالندوة، إضافة إلى أعضاء تنسيقية الانتقال الديمقراطي، كل من مولود حمروش وعلي يحيى عبد النور وعلي بن فليس ومن معه من أحزاب قطب التغيير، والمترشح المنسحب من الانتخابات الرئاسية الطاهر يعلى، ورموز الفيس المحل، علي جدي وعبد القادر بوخمخم، وڤمازي، وسعيد سعدي وعلي بن محمد، وغيرهم، بينما غاب أبو جرة سلطاني وسيد أحمد غزالي ومقداد سيفي. قبل أكثر من عقدين من الآن، لا أحد كان ينتظر خطابا على الملأ، يلقيه ممثلو “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” المحظورة، ولما كان الوزير الأول عبد المالك سلال يتحدث عن استحالة عودة الفيس من منبر مجلس الأمة، أمس، كان القيادي في الفيس المحل، علي جدي، يقرأ لائحة “الجبهة” لحل الأزمة، بعد أن نقل للمشاركين في “ندوة الانتقال الديمقراطي” سلاما من عباسي مدني وعلي بن حاج. ولبرهة، عاد هذان الاسمان إلى التداول في الفضاءات السياسية، كما لم يحدث، إطلاقا، قبل أكثر من 20 سنة، وأخيرا، وجد جدي وڤمازي وبوخمخم من يسمعهم، ويسمعهم بتمعن لافت، والسامع من؟ هم أضداد الأمس، الذين فرقتهم الإيديولوجيا مرة، ومقتضيات المرحلة التسعينية مرة أخرى، وقد يكون خصوم الماضي تيقنوا، ولو متأخرين، أن الفرقة كانت بيد السلطة الطولى، أو هذا ما يعتقدون، لذلك لم يجد سعيد سعدي، الرئيس السابق للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، هذه المرة، ما يحرجه لما يجلس قبالة قيادات الفيس، التي غاب عنها علي بن حاج، وأبقي على مقعده فارغا لزمن وعليه اسمه، وأمام كل من جاب الله وعبد الرزاق مقري ومحمد دويبي.. قد يكون مشهدا سليلا لقناعة صارت راسخة لمعارضة “شكرت النظام” على مساهمته في توحدها.. على هذا النحو وجه رئيس حزب “جيل جديد”، جيلالي سفيان، تشكراته للسلطة. توحد جمع فرقاء الإيديولوجيا الواحدة: الأفافاس مع الأرسيدي، بعد عقود من القطيعة، كما جمع فرقاء الأيديولوجيا الواحدة أيضا: “الفيس” و«حمس” و«العدالة والتنمية” بعد عقود من الفراق، ثم جمع هذين الكيانين مع بعضهما البعض كما لم يحدث في تاريخ الجزائر، يوما، والأمر لا يتعلق بوحدة تعد سابقة منذ نصف قرن، ولكن منذ البدايات الأولى للحركة الوطنية التي سبقت الثورة. والثورة في قاموس “ندوة الانتقال الديمقراطي” كانت تمثل مرجعا، عبرت عنه شاشة عملاقة في عمق الخيمة، تظهر عبر فيديو، قادة الثورة المختطفين على متن الطائرة التي كانت تقلهم من المغرب إلى تونس وهم: أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد بوضياف وخيضر ومصطفى الأشرف، كما تظهر أيضا مجاهدين يحملون السلاح في وجه الاستعمار، هي رسالة من المعارضة، أو أغلب أطيافها، تفيد بأن الانطلاقة يجب أن تبدأ من هنا، من الثورة، بأداة تطبيق ما ورد في بيان أول نوفمبر، المغيب في نظرها من قبل نظام، جانب الصواب من أساسه، كما يعتقد مريدو الانتقال الديمقراطي. شعور ما كان يسود الندوة، ربما كانت مشهدا معادا من أزمة التسعينات، بل أن ندوة “سانت إيجيديو” التي عقدت بين 1994 و1995 لم تعد حاليا مرجعا لمجمع المعارضة بعد ندوة أمس، وقد خيل للبعض أنه فصل من فصول المعارضة العربية، زمن ما سمي بالربيع العربي لو لا أن المتدخلين لا يريدونه على شاكلة مصر أو ليبيا أو تونس، وفي هذه النقطة بالذات اختلفت محاكاة أحزاب المعارضة لما يرونه حلا للخروج من الأزمة، فمولود حمروش، هذا الرجل صاحب الشعر الأبيض مازال يصر على إشراك الجيش في التغيير، وقد بدا غير راض عن طريقة تبني “التوافق” لما يعتقد أن التوافق لا ينبغي أن يأتي بورقة يصيغها واحد ثم يعرضها على شركائه لمناقشتها، وإنما يأتي بتوافق قبلي حول المطلوب من “التوافق الوطني”، رأي يقترب منه كثيرا الأفافاس، لما يقول سكرتيره الأول أحمد بطاطاش إن تجارب الانتقال الديمقراطي الناجحة هي تلك التي تم فيها إشراك النظام في التغيير، أما التي انفردت بها المعارضة فمصيرها كمصير بلدان ما سمي بالربيع العربي، ربما، هنا الاختلاف قد وقع، حتى وإن لم يفتح النقاش بين رموز المعارضة، لكن ذلك لم يكن ليفسد للود قضية، طالما أن كل تدخل أعقبه تصفيق. تصفيق لم تكن درجته مثيلة بالنسبة لعلي يحيى عبد النور، هذا الشيخ الشاب، الذي دخل صلب الموضوع دون مقدمات، وصلب الموضوع دائما واضح بالنسبة لصاحب “الموسطاش الأبيض”، فالرجل أرخى حباله الصوتية، ليتحول إلى “مارتن لوثر كينغ” الأمريكي من أصول إفريقية الذي حارب التمييز العنصري، علي يحيى كان يشبهه في انتقاد “لو سيستام بوليتيك” كما سماه، خاصة عندما قال إن “السيستام” في الجزائر شكل طبقة ثرية وأخرى معدومة، وعلي يحيى، الوحيد الذي تدخل بالفرنسية، وكانت يداه ترتعشان غضبا، ولم يكن الوزير الأسبق للتربية والمدافع عن العربية، علي بن محمد، ليمتعض منه، حينما كان جالسا بجوار رجل شارك في ندوة سانت إيجيديو قبل 20 سنة ب«كوستيم” نفسه الذي شارك وهو يرتديه في ندوة أمس، باختلاف اللون، ف«كوستيم” يحيى ذو المقاس المضبوط في ندوة أمس، كان أسود بربطة عنق سوداء، لفها على رقبته بإحكام وهو يتحدث عن رؤساء تعاقبوا، ولكل رئيس دستور بمقاس مضبوط. والدستور على شاكلته التمهيدية، كما يرى من كان على يمين يحيى، وهو علي بن فليس، لا ينسجم مع تطلعات الجزائريين، لقد خاض الرجل في وثيقة مراجعة الدستور المفتوحة للاستشارة بإسهاب، وقد بدا أن نتائج رئاسيات 17 أفريل مازالت تعكر مزاج صاحب المرتبة الثانية فيها، فكانت كلمة بن فليس الأطول على الإطلاق، وظهر رئيس الندوة، أحمد بن بيتور (الاثنان كانا رئيسي حكومة بالتتابع)، محرجا في تنبيهه بالوقت المخصص له، إلى أن استجمع قواه وخاطبه “يا سي علي.. اختصر”. ومع ذلك لم يكن “سي علي” ليختصر، ولكنه واصل إلى النهاية، قبل أن يغادر، ثم يتبعه مولود حمروش قبل أن تنتهي الندوة.. ندوة الانتقال الديمقراطي التي عقدت تحت شعار “معا من أجل جزائر الغد”، سماها البعض “ندوة” والبعض الآخر “لقاء” وآخرون سموها “اجتماع”، حظيت بتغطية إعلامية لا تختلف في حجمها عن تغطية نتائج الانتخابات من قبل وزراء الداخلية، لكن حرارة “خيمة” فندق مازافران غربي العاصمة، دفعت عشرات الحضور إلى اللجوء خارجا، وسماع التدخلات عبر مكبرات صوت أخلطت على الفارين من الحرارة الشديدة، داخل الخيمة، هوية المتدخلين، فصاروا في رحلات ذهاب وإياب من وإلى داخل الخيمة، التي شهدت أول فصل من فصول التئام خصوم نظام، طرحت تساؤلات حثيثة حول الشاكلة التي سوف يكون عليها موقفه مما ستسوغه المعارضة في مرحلة مقبلة، تبدو أكثر حرارة من حرارة خيمة “تنسيقية الانتقال الديمقراطي” ومن يواليها. أنشر على