قديمًا قالوا: العِبرُ كثيرة والمعتبر قليل؛ لهذا قال الحقُّ سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} يوسف:111، فما أكثر العِبر الّتي تمرُّ، ولكن لا يلتفت إليها إلاّ العاقل الّذي يُمحِّص الأشياء، أمّا الّذي يمرُّ عليها مُرور الكرام؛ فهو لا يستفيد منها. من هنا تظهر أهمية وخطورة هذه القاعدة: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}. أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلاّ مَن له لبّ وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام؛ فإنّما يفهم ويعقل ويتدبّر المعاني على وجهها أولو العقول السّليمة والفهوم المستقيمة. ذلك أنّ ﴿أولو الألباب﴾ هم أصحاب العقول الرّاجحة، و﴿الألباب﴾ جمع لُبّ. واللبّ: هو جوهر الشّيء المطلوب؛ والقشْر موجود لصيانة اللُّبِّ، وسُمِّي العقل ”لُبًّا”؛ لأنّه يدفع القشور بعيدًا، ويعطينا جوهر الأشياء وخيرها. وهكذا يكون أولو الألباب هم البشر الّذين يستقبلون القضية الإيمانية بعقولهم؛ ويُحرِّكون عقولهم ليتذكّروها دائمًا؛ ذلك أنّ مشاغل الحياة ومُتعتها وشهواتها قد تَصْرِف الإنسان عن المنهج القويم والصّراط المستقيم؛ ولذلك قال الحقّ سبحانه هنا: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} إبراهيم:52، أي: ليتذكر أصحاب العقول الرصينة والآراء السّديدة، الّذين هم لُبّ العالم وصفوة بني آدم. إنّ أهل العقول الزكيّة الذكيّة هم الّذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة الله على مخالفته؛ لأنّ لهم عقولًا ترشدهم للنّظر في العواقب، بخلاف من لا لبّ له ولا عقل، فإنّه يتّخذ إلهه هواه. ومن لبّهم وحزمهم، أنّهم عرفوا الحسن من غيره، وآثروا ما ينبغي إيثاره، على ما سواه، وهذا علامة العقل، بل لا علامة للعقل سوى ذلك، فإنّ الّذي لا يميّز بين الأقوال والأفكار والأفعال، حسنِها، وقبيحِها، ليس من أهل العقول الصّحيحة، والّذي يميّز، لكن غلبت شهوته عقله، فبقي عقله تابعا لشهوته فلم يؤثّر الأحسن، كان ناقص العقل. ولهذا قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ} إذ هذه مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره، وبين العالم والجاهل، وأنّ هذا من الأمور الّتي تقرّر في العقول تباينها، وعلم علمًا يقينًا تفاوتها، فليس المعرض عن طاعة ربّه، المتبع لهواه، كمن هو قانت أي: مطيع لله تعالى، ولكن لا يستحضر ذلك إلاّ أولو الألباب والنُّهى. يقول العلامة أبو زهرة رحمه الله: [فاللبّ معناه العقل، ولكنّه لَا يستعمل في القرآن إلاّ في العقول المستقيمة المدركة الّتي تخلّصت وسلمت من شوائب الهوى، ومعايب اللّذات، فهي العقول المسيطرة الّتي تستخدم لطلب الحقّ وتوصل إليه، لَا العقول المسخرة للأهواء واللّذائذ تتحكّم فيها وتسيّرها].