للفكر البشري دور خطير في توجيه حياة الإنسان ذلك لأن البشر كائن حر يشترك تفكيره في صياغة حياته اشتراكاً فعالا بينما ينحصر توجيه سائر الأحياء في ردود فعل غريزية واستجابات آلية لا تستطيع تطويرها إلا قليلاً. ولذلك فقد أولت الفلسفات القديمة والحديثة اهتماماً بالغاً بتوجيه الفكر الإنساني في محاولة جادة لهدايته إلى سبيل الحق والخير وإنقاذه من الضلالات والأخطاء التي تسبب للبشرية مآسٍ لا تنتهي. فوضعت كل فلسفة نوعاً من المنهج الفكري، ووفقت في إنارة جانب من درب المعرفة، ولكنها بالرغم من ذلك فشلت في إعطاء منهج متكامل للفكر يمنع من الضلالة والخطأ، ويعود السبب في ذلك الفشل إلى طبيعة جهلها بجذور مشكلة المعرفة عند الإنسان، لوضع حد مناسب لها، فحاولت توجيه الفكر بأساليب جامدة وببرامج مثالية للتفكير، وكانت تشبه في ذلك رجلاً يحاول تنظيف علبة مغلقة من خارجها حيث تذهب جهوده سدى. وجاءت رسالات السماء لتضع اليد على جذر المشكلة الذي قالت إنه يتلخص في سبات الفكر وغياب نور العقل عنه، ثم أخذت تعالج الأمر بأسلوب جديد وهو إثارة الفكر وتنبيه العقل متخذة الإيمان الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الأمر الهام، ذلك أن الإيمان بالله والتسليم لأمره ومعرفة أسمائه الحسنى، وأنه هو المهيمن في كل لحظة على كل شيء، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، يضع القلب الإنساني أمام مسؤولية كبيرة إذ يعتقد أنه لا يستطيع أن يفكر دون أن يكون مراقباً من قبل الله المهيمن العليم، ثم مسؤولاً أمامه عن نوع تفكيره، وما إذا كان استثمر نعمة العقل _ الموهبة، واستخدم المقاييس الدقيقة التي زود بها في حكمه على الأشياء؟ ولا يعذر الله سبحانه فرداً يبرر ضلالته عن الحق بأنه جاهل أو مخطئ، لأنه قد وُهب العقل وكفى به هادياً إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وقد جاء في الأثر ما يفيد ذلك. بهذه المسؤولية الفكرية التي يحس بها القلب المؤمن يستيقظ العقل ويقوم بدوره في توجيه الفكر واكتساح الضلالات من النفس البشرية، والتي تترسب فيها عادة منذ عهد الطفولة ثم يستعيض عنها بقيم الحق والفضيلة. وهكذا يساهم الإيمان في تنوير القلب كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. إن الإيمان يعطي البشر نوراً يمشي به لأنه يزوده بمقاييس دقيقة تحدد له وجوه الصواب وسبل الخير، إضافة إلى أن القلب المؤمن لا يستقبل الأساطير، لأنه يعلم أنه مسؤول أمام الله العليم عما يودعه عنده، فأي فكرة يحملها القلب تعرض على العقل، فإن اطمئن بها أخذها، وإلا ضربها عرض الجدار، والإنسان المؤمن يعرف سلفاً، أن أصل الانقياد للدين هو العقل، لذا فهو يتبع تعاليم الدين في التفكير والتي تكرسها الآية الكريمة: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}. هذه الآية تهدي إلى أحسن القواعد الفكرية والتي نوجزها في نقاط: أولاً: يجب أن يتحرر الإنسان من كل العوامل الضاغطة التي قد تؤثر في تفكيره ويعرف أن الحق أسمى من كل شيء، كما يجب أن يتحرر القلب من ضغط الكِبر والحسد وحب المال والسيطرة وخوف المجتمع حتى يكون الوصول إلى الحق غايته السامية التي يضحي من أجلها بكل شيء. ثانيا: يجب توفير الحرية الفكرية الشاملة في المجتمع لكي تتاح الفرصة لكل من يملك رأيا أن ينشره ويتمكن المؤمن من البحث عن الحق عبر الآراء المطروحة. ثالثاً: يجب تقييم الأفكار وفق مقياسين: الأول: هدي الشرع والثاني: نور العقل، ولذلك قال الله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}، فبهداية الله وبالعقل يستطيع المؤمن رفض الباطل ومعرفة الحق. هذه هي الأسس الفكرية التي يوفرها الإيمان للمسلم والتي استطاعت الأمة الوصول بسببها إلى أرقى درجات التقدم الحضاري، والتي نرجو أن يعود المسلمون إليها ليعيدوا أمجادهم التليدة.