كثير من الغوغائية تحيط بدستور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي انطلق في رحلة للبحث عنه منذ 16 سنة! فمع استمرار صمت صاحب المشروع حول مضمونه وآجال تنفيذه وطريقة تمريره، تضاربت الأخبار والتصريحات بين قائل إنه ”دستور عميق” ومتنبئ بإحالته على البرلمان دون الاستشارة الشعبية. أمين عام الأفالان نفسه الذي يشاع أنه قريب من ”مربَّع الرئاسة”، أدلى بتصريحات متناقضة، فمرة قال إن التعديل وشيك، ثم قال إنه مؤجل بسبب رفض المعارضة المشاركة في إثرائه. وبين هذا وذاك، كثرت الاجتهادات حول مضمون الدستور، في ”ظاهر” يتداول بعض الروتوشات و”باطن” لا يعلمه إلا صاحبه ومن يحيط به. لا أحد يعرف مضمونه ولا طريقة تمريره الدستور اللغز تترقبه الجزائر منذ 16 سنة! جاءت الأخبار والتصريحات الأخيرة بخصوص الدستور لتضيف مزيدا من الغموض على التعديل الذي يعتزم الرئيس بوتفليقة إدخاله عليه، بدل أن تنزع الغمامة عنه. فمضمون التعديل غير معروف وطريقة إجرائه غير معروفة ومتى يكون غير معلوم، ومن يقدم هذه المعطيات صامت ومنسحب من ساحة النقاش السياسي منذ زمن، بسبب المرض. باستثناء العودة إلى وضعية ما قبل التعديل الدستوري في 2008، بخصوص تحديد الترشح للرئاسة مرة واحدة قابلة للتجديد مرة واحدة، لا يوجد في وثيقة التعديل التي نشرتها رئاسة الجمهورية في ماي 2014 شيء لافت يذكر. وما جرى الحديث عنه عن طريق صحف أو من طرف موالين للرئيس عن ما يتضمنه التعديل الدستوري، كان مجرد تخمينات أو أمنيات عكست ما يريده أصحابها، وليس ما يدور في خلد الرئيس، هذا إذا كان الرئيس أصلا يعرف شكل ومضمون الدستور الذي يريد. أولا، التضارب الكبير الذي عرفه الملف هو القناة التي سيتم من خلالها تمريره، لأنها هي ما يحدد إن كان عميقا يمسّ بتوازن النظام وبالتالي ينبغي عرضه على الاستفتاء الشعبي أو طفيفا يستدعي في هذه الحالة فقط طلب تزكية ثلاثة أرباع البرلمان. هذا ما يشترطه دستور 1996، أما التجربة فقد أكدت أن بوتفليقة زلزل أركان النظام في التعديل الدستوري 2008، ومع ذلك توجه إلى البرلمان بدل طلب رأي الجزائريين، مدعوما في ذلك بشبكة واسعة من الولاء والمنتفعين من الريع. وما يدور حاليا حول الدستور اللغز أن الرئيس سيغير المادة 74 بوضع حد للترشح للرئاسة مدى الحياة، لكن ذلك لن يمنعه من الترشح للانتخابات في 2019 وبعدها في 2024 إذا تمت العودة إلى الترتيب الذي وضعه اليمين زروال في دستوره، أي الترشح لعهدتين كأقصى تقدير. أما آخر وعود بوتفليقة بشأن التعديل، فكان في نوفمبر الماضي خلال رسالة قرأها نيابة عنه (كالعادة) أحد مستشاريه. فقد قال: ”تستعد الجزائر لتعديل دستورها وهي تحضر لذلك بجدية، وكلها دراية بنضج الأفكار التي أفرزتها المشاورات الواسعة التي نظمت لهذا الغرض، من أجل إشراك كافة شرائح المجتمع والوصول إلى توافق حول المسائل الجوهرية”. ما ذكره الرئيس في هذه الرسالة بعيد عن الحقيقة، فليس صحيحا أن الأفكار نضجت، بدليل الضبابية التي تحيط بالمشروع حتى اليوم، ولم يحصل حوله التوافق بدليل أن عددا كبيرا من الأحزاب قاطعته، زيادة على أنه لم يعرض على فئات واسعة من المجتمع لتداوله، وإعطاء رأيها فيه، وهذا ما يفسر عدم اكتراث غالبية الجزائريين لهذا المسعى. وقال بوتفليقة أيضا في تلك الرسالة إن ”الهدف المتوخى من نظرتنا إلى الأمور (الدستور) هو تسهيل مسار انفتاح المجتمع الجزائري ومرافقته، مع العمل على حفظ استقراره وتجنيبه الاضطرابات التي تعرفها مختلف دول عالمنا، في زمن التحولات العميقة التي يشهدها”، لكن كلام الرئيس عن الانفتاح يبقى عاما ولا يعرف كيف سيترجم في التعديل الدستوري وبأي آليات. وأبدى بوتفليقة، في بداية حكمه، عدم رضاه عن دستور زروال، فوصفه ب«الهجين”. وفي 2006 قال إنه يعتزم إدخال تعديلات عميقة عليه، لكنه لم يفعل. وفي 2011 قال إنه ”سيدخل عليه تعديلا جذريا في أقرب وقت”، ولم يفعل.
لغط بشأن وثيقة خضع مضمونها لمجرد افتراضات الظاهر والمغيب في دستور بوتفليقة يرتبط المخاض الذي تشهده التعديلات الدستورية بالجهل بمضمونها الحقيقي، بعيدا عن تلك الوثيقة التي وزعتها رئاسة الجمهورية على الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية لإثرائها. وفي غياب الوثيقة الحقيقية المطروحة للتمرير سواء عن طريق البرلمان أو الاستفتاء، ”تناثرت” الاجتهادات بشأن ما يحمله الدستور الجديد، بين الواقع والأماني، وتوزعت في شكل جدال أقرب إلى لغط منه إلى نقاش يرتكز فعلا على مستندات رسمية. لغط دفع لويزة حنون إلى وصفه ب”الثرثرة الدستورية”، ويأمل قادة المعارضة أن لا يتلقوا أسئلة عن الدستور. ويتوزع شكل ومضمون المراجعة الدستورية على ”يوميات سياسية” لمجتهدين، لم تخرج اجتهاداتهم عن المعالم الكبرى للوثيقة الأسمى في البلاد، من تلك التي تقول إن الرئيس بوتفليقة عاد إلى تقييد العهدات الرئاسية، بواحدة قابلة للتجديد مرة واحدة. وبدا هذا الخيار الدستوري عاديا جدا وحاكى اضطرابات الربيع العربي، وقدم غلق العهدات الرئاسية على أنه تحصيل حاصل ناجم عن مخاوف تعفن سياسي بدأ العام 2011، فيما عرف بأحداث الزيت والسكر. لكن حتى هذا البند لا أحد يضمن تقييده فعلا في الدستور الجديد، حيث بدت السلطة وكأنها خرجت من اضطرابات الربيع العربي سالمة، بل غالبة، وقد زكاها وضع بلدان عرفت ثورات مضادة، من حيث حلت أنظمة بديلة عن تلك المتمخضة عن الثورات العربية، مثل ما حصل في تونس ومصر. وهناك روابط تؤشر على أن مضمون الدستور أيضا قد لا يخرج عما يطرح بالساحة السياسية من أقوال روافد السلطة، بمعنى أن هناك تسريبات تؤكد ”سطحية” التعديل الدستوري بما لا يشتهي الكثيرون، ما يعني أن التعديل سوف لن يكون معمقا حتى وإن أكد رئيس المجلس الشعبي الوطني، العربي ولد خليفة، العكس، بينما لا تمس المراجعة طبيعة النظام في أساسه الذي يرتكز على ”الرئاسي” أو ”شبه الرئاسي”، مع أن أكثر الضالعين في القانون الدستوري لم يحددوا إن كان النظام المعمول به رئاسيا أم شبه رئاسي. ويتواتر الحديث عن ”تنازل رئيس الجمهورية عن رئاسة المجلس الأعلى للقضاء”، وكذلك منح المعارضة هامش تحرك أوسع في الساحة السياسية، وتوسيع الإخطار ليشمل البرلمان، عكس ما هو محصور في شخص رئيس الجمهورية ورئيسي الغرفتين البرلمانيتين، ولا أحد يعرف حدود الفصل بين السلطات، ولا مدى الحريات المضمونة في الدستور، وهناك حديث خافت عن ”دسترة المجلس الاقتصادي والاجتماعي” الذي يرأسه حاليا محمد صغير بابس. وهناك، أيضا، دعوة إلى دسترة اللجنة الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان من قبل رئيسها فاروق قسنطيني، وما يتردد من أقاويل في هذا الشأن يؤشر على أن مطالب الذهاب إلى ”الجزيئات” في التعديل الدستوري المرتقب غائبة تماما. وكان الأمين العام للأفالان السابق، عبد العزيز بلخادم، دعا إلى ذلك، وكذلك لويزة حنون التي تطالب بدسترة منع الانتجاع السياسي. أما دسترة منصب ”نائب الرئيس”، فالظاهر أنه تم التراجع عنه، بعدما طرح بقوة عند بدء ما سمي الإصلاحات السياسية، وتم تعويض ذلك بإسناد بعض صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الوزير الأول. خضعت دساتير الجزائر، من دستور 76، إلى العديد من التعديلات، لكن الملاحظ أن دسترة إنهاء العمل بالشرعية الثورية لا أثر لها في التعديلات المتوالية، رغم قول الرئيس بوتفليقة، خلال مؤتمر المنظمة الوطنية للمجاهدين العام 2005، إن ”عهد الشرعية الثورية قد ولى”.
حوار عضو المكتب السياسي للأفالان، السعيد بوحجّة، ل”الخبر” ”تضارب المعلومات حول موعد الدستور دليل على جدية تعديله” ما هي الأسباب التي تقف، برأيك، وراء تضارب المعلومات حول مضمون الدستور؟ هذا دليل على أن مسألة تعديل الدستور جدية وغلق لمنافذ التسريب من الجهة التي تملك الوثيقة، أما ما صرح به مؤخرا رئيس المجلس الشعبي الوطني حول تسلمه نسخة من وثيقة التعديل، فعاود الأخير الظهور وصحح كلامه عبر قوله بأنه أعطى معلومات أدبية عامة حول الموضوع، وأشار إلى أن الدستور لايزال في طور الإنجاز، والوثيقة التي بحوزته أولية وليست نسخة نهائية. البعض يصف الجدل الدائر حول الدستور بالثرثرة وآخرون يتنبأون ب”قربه”، أي الطرحين أقرب إلى الواقعية؟ أولا، وجب التنبيه إلى أن رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة هو الجهة المخولة قانونا بالفصل في وثيقة الدستور وإحالتها إمّا على البرلمان بغرفتيه أو الاستفتاء الشعبي لتحديد مصيره. أمّا جوابي على سؤالك، فإن المسار الطبيعي والحقيقي لوثيقة الدستور قائم في اللجنة التي تعمل على تعديله. أما بخصوص التصريحات الفردية لبعض زعماء أحزاب سياسية، فهي لا تخرج عن سياق اجتهادات سياسية شخصية ولا تندرج إطلاقا في المسار الطبيعي لمشروع التعديلّ. وبالتالي، فإن الدستور المُقبل سيكون توافقيا يخدم الطبقة السياسية والمجتمع، وكل من له رأي أو طرح حول الوثيقة ما عليه سوى التوجه إلى اللجنة التي تعكف على تعديله، نظرا لكون المشروع يهدف إلى تعميق الممارسة الديمقراطية وإحداث توازن بين مؤسسات الدولة. وعلى ضوء هذه المتغيّرات، فالرئيس بوتفليقة هو الجهة الوحيدة المخولة التي تحيل الوثيقة على الآلية التي تنظر فيها، زيادة على أن ما قدمته الأحزاب بخصوص المشروع هي تعديلات وليست تغييرات، لذلك حرص الرئيس على توجيه دعوات لكل الأحزاب وبالخصوص المعارضة، بحكم أن وثيقة تعديل الدستور تهم الدولة وليست ملكا لبوتفليقة. كيف لرئيس وأحزاب الموالاة وعلى رأسها أمين عام الأفالان، تهاجم المعارضة ثم تربط مصير الدستور بها؟ سعداني يتحدث عن موقف حزبه، خصوصا عندما يتحدث عن المقترحات التي قدمتها المعارضة في إطار الإصلاحات السياسية لسنة 2011، وهي نفسها التي يؤمن بها الأفالان، وبالتالي لماذا هذا التغير في صف المعارضة، علما أن مواقف الأحزاب لا تتغيّر، أما العلاقة بين ما قاله الرئيس بشأن المعارضة في رسالة عيد النصر، فهو ليس تهديدا، بل وجه رسالة للمجتمع والطبقة السياسية يحثها على ضرورة المشاركة في حوار التأسيس لدستور توافقي، وأي مقاطعة له هي مقاطعة للشعب والمجتمع، لأن المعارضة لم تقدم مبررات قوية عن أسباب مقاطعتها تعديل الدستور، والرئيس استعمل أسلوبا في تلك الرسالة خدمة للمستقبل وإعطاء صورة عن كيفية بناء حصانة للمعارضة في الدستور.
رئيس حزب ”جيل جديد”، جيلالي سفيان، ل”الخبر” ”بوتفليقة يساوم بمنع شقيقه من استخلافه بتمرير ما يشاء في الدستور” هناك تضارب في المعلومات حول مضمون الدستور، في وقت كثرت اجتهادات الطبقة السياسية بشأن ذلك، ما رأيكم؟ عدم وضوح الرؤية بخصوص مضمون الدستور وأيضا التعطّل حول تحديد موعد والكشف عن محتوى الدستور سببه عدم توفر توافق في أعلى هرم السلطة، لأن الرئيس بوتفليقة يحاول أن يجري تعديلات تناسب وضعيته في الحكم والزمرة التي تحكم معه، والمعارضة فهمت أن الدستور المقبل سيكون على مقاس السلطة الحالية، وقد ظهر عدم التوافق واضحا في تصريحات أحزاب الموالاة الناطقين باسم السلطة، بأن تعديل الدستور لن يكون في الأيام المقبلة. يربط سعداني تأخر الإفراج عن الدستور بامتناع المعارضة عن الانخراط في مشروعه، هل يمكن الاعتقاد بهذا الطرح؟ في إطار السياسة السياسوية، أمين عام الأفالان، عمار سعداني، على حق، لأنه يعترف بقوة المعارضة التي استطاعت أن تقف حجر عثرة أمام حلم بوتفليقة بتعديل الدستور. وبتواضع، موقف المعارضة من تعديل الدستور الذي رفضته مبدئيا واضح ولا غبار عليه، فالرفض انطلق من كون المعارضة ليست لها قيمة عند السلطة ولا تتعامل معها كشريك، فلاتزال تمنع من استغلال قاعات لتنظيم ندوات أو تظاهرات حزبية وسياسية، وتُقمع وقفاتنا السلمية في الشارع، لذلك تصريح سعداني بأن الحلم الكبير لأول رجل في الدولة بغية تعديل الدستور تعيقه المعارضة، مبررات ضعيفة جدا وصعب تصديقها. لماذا إذن لجأ الرئيس إلى هذا الخيار بهدف الدفاع عن تأخر موعد الإفراج عن الدستور؟ بوتفليقة يحاول تحميل إخفاقه في تحقيق حلمه الكبير للمعارضة، من خلال إيهام الرأي العام بأن أحزاب المعارضة هي التي تقف وراء تعطيل الدستور، وهو بذلك يظهر تناقضات في أعلى هرم السلطة بعدم التوافق على المشروع من أصله. وأبرز ملاحظة استنتجتها من كلام سعداني أن الرئيس عندما ينفي عدم وجود نية لدى شقيقه لتأسيس حزب سياسي، وعدم قبوله أن يخلفه شقيقه الأصغر السعيد، معناه أن الفكرة كانت مطروحة فعلا، وبالمحصلة عبد العزيز بوتفليقة يحاول أو يساوم بتمرير ما يشاء في الدستور، بمنع أخيه من استخلافه في كرسي الرئاسة. أي تناقضات تقصد؟ معروف عن بوتفليقة أن هدفه الوحيد البقاء في الكرسي، لذلك يحاول عبر الدستور أخذ كل الضمانات لعدم تغيير النظام وعدم فتح مجال محاسبته وضمان تحسين صورته، وهو بذلك يعرّض الأمن القومي للبلد للخطر، لأنه يعلم تماما أن الحل يكمن في إعادة النظر في الإخفاقات المسجلة في كل المجالات. وأبرز التناقضات بدت في صراع بين بوتفليقة الذي يدافع عن حلمه الكبير ليضمن لنفسه كيفية مواصلة أيامه المتبقية في السلطة، وبين جهات أخرى داخل وخارج النظام تحاول أن تضع الجزائر فوق الأشخاص، وهؤلاء متواجدون في كل مؤسسات الدولة، الإدارة، الجيش، المخابرات وحتى المعارضة.