الهوى يستحقّ أن يسمّى داء فقدان المناعة المكتسبة للرّوح والنّفس؛ لأنّ الّذي يتحكّم فيه هواه يصبح عرضة لكلّ الأمراض النّفسية، بل يصبح عرضة للانحرافات والتّشوّهات النّفسية، لا جرم أن تكرّر التّحذير منه ومن مغبته وخطورته، حتّى قرّر الإمام الشّاطبي أنّ من المقاصد الّتي جاءت الشّريعة لتحقيقها خروج المكلّف عن هواه، فقال رحمه اللّه: “المَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجُ المُكَلَّفِ عَن دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبدًا للّه اخْتِيَارًا، كَمَا هُوَ عَبْدٌ للّه اضْطِرَارًا”. فالهوى قرين الضّلال وسائق إليه، وهذا ما قرّره اللّه عزّ من قائل: {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّه}، وأكّده في آيات عدّة: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللّه إِنَّ اللّه لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللّه وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللّه عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّه أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. يقول الشيخ ابن عاشور في تفسير آية: {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللّه}: “والنّهي عن اتّباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذر من جرّاء الهوى ويتّهم هوى نفسه ويتعقّبه فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلاّ بعد التأمّل والتّثبّت، ذلك أنّ هوى النّفس يكون في الأمور السّهلة عليها الرّائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النّفس؛ لأنّها ترجع إلى تهذيب النّفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج المَلَكَية، ففي جميعها أو معظمها صرف للنّفس عمّا لاصقها من الرّغائب الجسمانية الرّاجع أكثرها إلى طبع الحيوانية؛ لأنّها إمّا مدعوة لداعي الشّهوة أو داعي الغضب؛ فالاسترسال في اتّباعها وقوع في الرّذائل في الغالب، ولهذا جعل هنا الضّلال عن سبيل اللّه مسبّبًا على اتّباع الهوى”. وأحسب أنّ الضّالين عامّة يعرفون الحقّ والخير والعدل ولكن هواهم يقف حاجزًا بينهم وبين اتّباع هذه الفضائل، إذ حيثما يكون الهوى تكون الشّهوة، وبالتّالي ينطفئ نور العقل وتذهب قيمة الحُجّة، ويتمتّع صاحب الهوى في ضلاله وانحرافه وغيّه! *إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة - بوزريعة