يتميّز الحُضور الدّيني في مشهد التحوّلات السّياسية والاقتصادية بتأويل النّص والبحث عن تخريجات فقهية واستحضار التّاريخ الفتني ومواقف الصّحابة والتّابعين في الخلاف حول الإمامة لتأييد هذا الموقف أو ذاك، وبذاك نكون أمام اجتهاد حسْب الطّلب تضيع معه حرمة الأصول النّصيّة والفقهية ويُضحّى بالواقع، أي أنّنا أمام فتاوى تُهدر التّراث والواقع معًا وتقوم على قياس ما يحدث في بداية القرن الواحد العشرين بما حصل زمن ما سمي ”الفتنة الكبرى”. طبعًا يمكننا استحضار ذلك من باب الوعي بتطورات الفكر الدّيني والسّياسي ولكن ليس بإسقاط يُبقي الوعي الإسلامي سجين القياسات والتماثلات ويستسهل المقارنة واستنباط الأحكام. نتذكّر هنا التيار القطبي-التّكفيري الجهادي الّذي اتّخذ من فتاوى ابن تيمية في شرعية الجهاد تجاه الأنظمة القائمة متذكّرًا واقع الزّمن التتاري في القرن السادس الهجري، وما وقع في الجزائر في تسعينيات القرن الماضي من مجازر دموية حضرت فيها فتاوى الجهاد ثمّ تنبّه بعض مشايخ السّلفية إلى أنّ ضلال ”القياس” المُهدر لطبيعة النّص الدّيني وللواقعية أهدر دماء بريئة، واليوم يستمرّ هذا الشّقاق في المستويات السياسية والاجتماعية وانسحب ذلك على مستوى الاجتهاد، وقد قال الشهرستاني في (ت:548ه) في مستهل كتابه ”الملل والنِّحَل” (ما استلّ سيف في الإسلام مثل ما استلّ على الإمامة). ومن أبرز الفتاوى الّتي شاعت في أوساط شباب الانتفاضة والاحتجاجات في مصر واليمن وليبيا طبعًا، إلى جانب خطب وفتاوى يوسف القرضاوي وبعض أعضاء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، فتوى الداعية حاكم المطيري الكويتي الّذي اعتبر قتلى الثّورات العربية شهداء خرجوا لثلاثة أسباب -في نظره-: إمّا دفع ظلم واجهوه أو لتغيير منكر أو لإعانة مظلوم، وقد تبع هذا نقاش حول مواضيع مرتبطة بذلك مثل التّغسيل والتّكفين، في حين يرى سلفيون آخرون وبعض مشايخ التّصوف أنّهم ماتوا ميتة جاهلية لأنّهم تخلّوا عن البيعة، وهم مثل الخوارج والحرورية الّذين كُفّروا في عصر الإسلام الأول. هكذا سوف تتمرس بعض الأنظمة العربية بالسّلفية العلمية الّتي لا ترى جواز الخروج عن الحاكم وتُشجع ”الفتاوى حسب الطلب” ونكون أمام فتنة جديدة تعيدنا إلى فضاء التّكفير والتّفسيق وتتغلّب منهجية التّقسيم للتيارات الإسلامية، وتصبح مقولة ”الفرقة النّاجية” فارغة من الدّلالة لأن كلّ فرقة تدّعيها، كما أنّ ما ستسفر عنه هذه التحوّلات سيعيدنا إلى مربع الصّراع بين الإسلاميين من جهة ”السّلفية الامتثالية” الّتي لا ترى الثّورة والمعارضة العنفية في مواجهة ”السلفية الجهادية” وصراع هؤلاء مع ”الإخوان المسلمين” و”المتصوّفة” من جهة أخرى، كما سيشتدّ الصّراع مع العلمانيين واللّيبراليين، ويكون لحضور النّص الدّيني وتأويله تأثير سلبي على تطوّر نقاش سياسي وثقافي حضاري مدني يُعلي من قيمة وقداسة القرآن الكريم والسُّنَّة النّبويّة وواقعي لا يهدر الحاضر والمستقبل في قياسات آلية.